"قاتل أطفال
الشوارع"
بقلم/ أحمد عبدالغفار
صباحٌ آخرُ سيّء مثل كل يوم، أستيقظ يومياً على جرائم مع اختلاف أنواعها، إما قتل أو سرقة أو اغتصاب، أما اليوم فهو أسوأ صباح مرّ عليّ منذ أن أصبحتُ ضابطَ شرطة.
فاليوم حدثت جريمةٌ هزت المدينة، وانتشر الفزع وأصبحت حديث الشارع، إنها جريمة قتل لخمسة أطفال من أطفال الشوارع الذين لا عائلة لهم.
سُحقاً، من الذي يريد قتل أطفال؟ ولماذا؟
أتساءلُ فلا أجدُ دافعاً لارتكاب تلك الوحشية سوى الجنون، نعم فإنّ من يفعل ذلك هو
بالتأكيد مختلٌ.
والأدهى من ذلك أنّ القاتل قام بتسليم نفسه هذا الصباح، وقد كلفوني بالتحقيق معه، يالسوءِ حظي وتعاستي!
لمَ أنا؟ فهناك من هو أفضل مني.
كنت أقود سيارتي وأنا افكر في كيفية التعامل مع
القاتل، فهذه أول مرة لي أقوم بالتحقيق مع قاتل أطفال، لكنهم قاموا بتسهيل
الأمر عليّ وأخبروني أنه اعترف بجريمته، وأن تحقيقي معه روتينيٌ من أجل كتابة تقرير لكي يُقدمَ للقاضي الذي سيحكم عليه.
وبالطبع سيكون الإعدام هو مصيره لا محالة.
نعم جلسةٌ واحدةٌ وينتهي الأمر، عليّ أن أتحمل، ولن يستغرق الأمر سوى
ساعة واحدة، وأعود لمنزلي
بعد إنهاء التقرير وتقديمه لرئيسي.
ذهبت إلى زنزاته فوجدته جالساً على كرسيٍ حديديٍ، ومقيداً من يديه وقدميه حتى لا يستطيع الحركة، ووجدت كرسياً آخر قد أعدوه لي، قمت بالجلوس مقابله، ولكني بعيدٌ عنه بمتر أو اثنين.
نظرت إليه فوجدته شاباً أنيقاً يبدو عليه أنه مثقف.
نظرت إلى الأوراق في يدي وعرفت اسمه وعمره، ثم نظرت له وبدأت
الحديث.
-
أعتذر عن تلك الطريقة التي قيدوك بها.
-
ضابط شرطة يعتذر؟ إنه شيءٌ جديد.
-
وهل ضباط الشرطة ليسوا
بشراً؟
- يبدو أنك جديدٌ في هذا العمل، هل أرسلوك للتدريب؟ فجريمتي كبيرة كما تزعمون، وكنت أعتقد أنهم سيرسلون لي أكفأ ضباط عندهم.
-
دعك من هذا الهراء
ولنبدأْ التحقيق، هل أنت مستعد؟ لأنني لا أحبُ التلاعب.
-
هههههه مستعدٌ طبعاً، وسوف أكون صريحاً معك، فأنا أشعر تجاهك بالمودة.
- الاسم "عادل
عبد الله"، السن ثلاثة وثلاثون عاماً؛ مُقيمٌ في أحد أحياء القاهرة؛ حاصلٌ على ليسانس أداب قسم علم
نفس من جامعة القاهرة؛ غير متزوج وليس لديك أشقاءٌ وتعيش وحيداً بعد وفاة والديك منذ
ثلاث سنوات؛ لا تعمل وتمتلك محلين تقوم بتأجيرهما وتعيش منهما.
-
كل ما ذكرته صحيح يا
حضرة الضابط.
- إني أراك متعلماً ومثقفاً ولا يبدو عليك الإجرام، بجانب أن الملف الخاص بك نظيف
وسمعتك كما يبدو نظيفة.
-
نعم وهذا لأنني وحيد
وليس لي أصدقاء ولا أحب التعامل مع الناس
عامة، وأفضّلُ العيش وحدي.
-
ولمَ تُفضل الوحدة ؟
-
أن تعيش وحدك أفضل بكثير من الاختلاط
بعقول لا تقدر قيمة الإنسان أو الإنسانية.
-
وما الذي جعلك تعتقد
ذلك؟
-
لا تراوغني يا حضرة
الضابط أو تستخف بي فأنا لا أحب ذلك.
-
لا أستخف بك، ولكني مندهشٌ من حديثك.
- لا تندهش فهناك
الكثير في هذه الحياة يثير الدهشة أكثر من حديثي أو فعلتي أو كما تسمونها جريمة.
-
لماذا قتلت هؤلاء
الأطفال؟
-
أنا لم أقتلهم بل عجلت بذهابهم للجنة.
-
وهل عقلك المريض هو من
يبرر لك ذلك؟
-
انا لست مريضاً وعليكم أن تكافئوني.
-
نكافئك؟ على ماذا؟ على
قتلك أطفال أبرياء بدون عائلة؟
- ها أنت نطقتها، بدون عائلة، إذن من يهتم لأمرهم؟ من
سيفتقدهم؟ لا أحد صدقني إن ما فعلته هذا
لمصلحتهم.
-
لمصلحتهم؟ كيف يكون
قتلهم لمصلحتهم؟
-
أنهيت حياتهم البائسة التي كانوا سيعانون منها، هل أنت حزين عليهم وتهتم
لأمرهم؟
-
نعم، ومن لا يحزن لقتل أطفال؟
- هناك الكثير مثلهم
ما زالوا على قيد الحياة، ماذا فعلت أنت لهم؟ أخبرنى هل فكرت في امرهم يوماً؟ بالطبع لا، أنتم فقط تحزنون وتظهرون
على وسائل الإعلام وشاشات التلفاز وتصيحون
بأعلى صوتكم أنكم بجانبهم وتهتمون
لأمرهم وتحزنون لأجلهم، ثم تذهبون إلى منازلكم لتقبلوا زوجاتكم وتمرحوا
مع أطفالكم، ثم تنامون مطمئنين، بينما هم ما زالوا
مشردين، نائمين على جانبي الطرق جائعين ومرضى، وعندما ترونهم فى
الطرقات تغلقون نوافذ سياراتكم وتهربون منهم، حتى لا توسخ أيديهم زجاج سيارتكم، أتمازحني؟ أم تسخر مني؟ أنت لا تهتم وهم أيضاً لا يهتمون.
-
ومن أخبرك أننا لا نهتم؟ نحن نفعل ما بوسعنا.
- أرأيت؟ هذا ما أتحدث عنه، هذه الطريقة في الحديث هي طريقتكم، الاطمئنان، كل ما يشغل تفكيركم أن يسود الاطمئنان في المدينة.
-
وهل هذا غيرُ كافٍ؟
- بالطبع لا، تحاسبونني على قتل بضعة أطفال بينما يموت المئات
جوعاً ومن المرض، أو تُقطعُ أجسادهم وتُسرقُ أحشاؤهم وأنتم فقط تشاهدون.
-
إن لم نستطع حمايتهم فنحن
مقصرون، وأعترف بذلك، لكننا على الأقل لا
نقتلهم.
- هُراء، كل ما تقوله هُراء، أنتم تقتلونهم بالفعل، ماذا يعني تركهم مشردين يعانون من
الجوع؟
-
وهل تعذيبهم وقتلهم
بوحشية هو الحل؟
-
وهل أنا فعلت ذلك؟
-
نعم إنّ ما فعلته يملأُ الجرائد والأخبار.
- ههههههه تزييف يا
صديقي، يجب عليك التأكد من
معلوماتك، إنهم لا بد أن يُظهروني وحشاً أو مختلاً حتى يُبقوا على نظافة سمعتهم
ومظهرهم، أنت تعلم جيداً هذه الطريقة.
-
إذن أخبرني أنت ماذا فعلت؟
- سأخبرك بشيءٍ واحدٍ فقط، أنهم ماتوا سعداء وبدون أي ألم، فأنا لا أحتمل رؤية طفل يتألم.
-
إذن أخبرني كيف قتلتهم؟
-
إن أخبرتك هل ستخبر العالم بما
فعلته وتجعل رؤساءكَ كاذبين؟ هل تستطيع؟
-
سوف أحاول، ولكن هذا لن يغير في مصيرك شيئاً.
- وهل تعتقد أنني أكترث لما سيحدث لي؟ بالطبع لا، افعلوا ما تريدون، أنا فقط أوضح لك أنك لا تستطيع فعل شيء، حتى قول الحقيقة، إنك وبكل صراحة مجرد آلة مثل كثير من الآلات التي يتحكمون بها، تفعل ما يأمرونك به فقط
دون تفكير أو اعتراض، وإن لم تطع الأوامر يقذف
بك فوراً إلى الجحيم، صدقني يا صديقي هكذا تتم الأمور.
- عندما أخبرونى أنني من سيحقق معك أخبرونى أنك مختلٌ وقد صدقتهم بالفعل، ولكن بعد ما تحدثت معك أعترف أنك غير ما يعتقدون هم، هل تعلم أنك محقٌ تماماً فيما تقول؟ ولكن دعني أخبرك شيئاً، أنا طوال عمري وأنا أتمنى أن أكون خادماً لوطني، غير مكترث بحياتي أو عائلتي، أستيقظ كل يوم على أخبار سيئة، وقمت بالتحقيق في كثير من الجرائم، ورأيت كثيراً من القتلى، وهذا ما جعل نومي مزعجاً، وكوابيس أراها كل ليلة، مما جعل حياتي بائسة غير ممتعة، أنظر إليك الآن وأنت تتحدث، وكنت أسأل نفسي لمَ كل هذا؟ لمَ عليّ أن أتحمل أكثر مما أطيق؟ أنت محق، سيقومون بإعدامك وقد قرروا ذلك
بالفعل، وأخبروني أن التحقيقَ معك روتيني من أجل كتابة تقرير ليس له
فائدة ومصيره هو الحرق، هل تعلم أنني لن أكتب تقريراً، بل سأكتب شيئاً آخر.
- اعتقدت في أول الأمر أنك مثلهم، ولكن عندما جلست وتحدثت
معي برقي طريقتك، جعلتني أكون صريحاً معك، لا أكذب عليك، لقد شعرت تجاهك بقليل
من الود، وتمنيت لو أننا كنا أصدقاء، ولكن هذه تدابير القدر، أعلم أننا لن نلتقي ثانيةً، وأعلم أيضا أنك لن تنساني أو بالأدق لن تنسى حديثنا
معاً.
- نعم أنت محقٌ، لن أنسى جلستنا تلك، فلقد فتحت لي أبواباً كنت أتمنى أن تظلّ مغلقة، وحقائقَ كنت أتمنى ألا أعرفها، فمعرفة الحقيقة ليست دائماً بالأمر الجيد، وبعض الأكاذيب كثيراً ما تجعلنا سعداء.
- يوجد فيلسوف غيري هنا في الغرفة، أنا في قمة سعادتي، ولن أخفي عليك، سأكون ممتناً لك إن قمت أنت بإعدامي.
-
إذا كان الأمر بيدي فلن أتردد قليلاً في ذلك.
-
ههههههه إنك تشبهني كثيرا.
- لا ليس كثيراً، هناك فرق بيننا، أعتقد أن التحقيق قد انتهى، ويؤسفني أن أخبرك أنني استمتعت كثيراً بالحديث معك.
-
فضولي يكاد يقتلني، وأريد أن أعرف ماذا ستكتب عني في تقريرك؟
-
وهل هذا يهمك؟
-
نعم أريد أن أعرف رأيك فيّ؟
-
رأيي لا يهم ولن يغير شيئاً، فلقد قررت ألا أكتب تقريراً من الأساس.
-
وماذا ستكتب إذاً؟
-
سأكتب لنفسي حياة جديدة، سأكتب شهادة خلاصي من هذا العناء، سوف أكتب استقالتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق