غيرتني


قصة قصيرة
"غيرتني"
ربا حسن درباز

تنسدل ُ أستارُ الليل لتبدأ القَصَصُ وتُنسَجُ خُيوطُ الحَكايا ويخُلُ كل حبيبِ بحبيبهِ، وقصتي هنا قصةُ حبٍ من نوعٍ خاصْ.
كانت تسكنُ في الغرفةِ المقابلةِ للمبنى الذي أقطن فيه "مبنى طالبات جامعيات" أحسست أنها في التاسعةَ عشرة من عمرها، لكن هيئتَها لا تعطيني سوى اثنتا عشرةَ عامًا، فهي ذاتُ وجه طفولي وملامح بريئةٍ لم تلوثها تلك المساحيق التي يُنعتون لنا أنها للتجميل.
كلما رأَيتُها من نافذةِ غرفتي صباحًا تُدبُّ في روحي الحياة التي طالما تَمَنّيتُها، لم أرها يومًا جاهمةً عابسة، فلم تشكُ لي ملامح وجهها همًا من هموم الحياةِ ولا رزءًا من أرزاءها، تُلقي السلام على بائع الفطائر... وتبتسم لتلك الفتاةِ التي تبيع الأزهار، ثم تشتري منها وردة جميلة كجمالها؛ لتستنشق منها عبير عطرها الزاكي... تحتضن طفلاً يرتدي زي الروضة، ثم تعطيه بعضًا من السكاكرِ اللذيذةِ؛ فيقبلُ وجنتيها شاكرًا.
هذا ما أراه من نافذتي!
أليس عجيبًا ألا أراها عابسًة يومًا؟! وأن أراها دائمًا في مرح وسعادة لا يُكَدِرُ صفوَها شيء، حيرني أمُرها...
عكَفتُ أراها على هذا المنوال طيلة الشهر والحيرةُ تزدادُ داخلي! إلى أن جاءني ما يوصلني إلى الخيط الأبيض من لُغزها! كنتُ نائمةً كالمعتادِ في منتصف الليل حتى أيقظني كابوسٌ مريبُ، أروح وأجيء في أرجاءِ الغرفة مع بكاءٍ مستمرْ، لم أعرف سرهُ إلا حداثةً، مَن يرني يخرُّ صعقًا.
خرجتُ إلى الشرفةِ؛ لألتقطَ بعضًا من أنفاسي المتقطعة، فإذا بي أرى ضوءً خافتًا صادرًا من غرفتها يُريني شبح صورتها واقفةٌ باتجاه القِبلةِ حاملةً مصحفًا بين يديها؛ ولأنه هدوءٌ قاتل ٌ سمعت صوتًا عذبًا نديًا يُرتّلُ آياتِ الله كان مصدرهُ هي! ثم ركوعٌ يتبعهُ سجودٌ استمرَّ طويلًا "حوالي نصف ساعة"، ثم أعادت الكَرّةَ وأنا مذهولةٌ تمامًا.
الآن عرفتُ سرَ ابتهاجِ أساريرِ وجهكِ وابتسامَتِكِ الوضَّاحة؛ أحببتِ ربَّكِ بِكْلِّ ماللحبِ من معانٍ جميلةٍ وأحرفٍ زاهية، هذا العَقدُ الذي عُقِدَ بينكِ ربَّكِ لن يحَلّه إلا ريبَ المنون... أن تستيقظي في هذا الليل الحالك لتَبُثّي حُزنكِ وكدر عيشتك لله عز وجل... لله فقط!
هذا هو الذي يَهَبُكِ القدرةَ على مواصلةِ حياتكِ دون عبسٍ، ألم أقل إنها قصةُ حبِ من نوعٍ خاصْ!
تستيقظينَ خصيصًا في كُلِ ليلة من هذا الوقتِ المبارك، وأنا! حتى فرائضي أقصر فيها، سعيدةٌ من أجِلكِ حزينةٌ من أجلي، تململتُ في فراشي ألمًا وحسرةً أُفكرُ في حالي "هل هذا الثقبُ الصغيرُ الذي خَرقَ قلبي الليلةَ وأنار لي َعَتمتَه سيغيّر قدري؟! هل هذا الثقب الصغير سيريني عالمي مع الله؟! هل ستُنصَح توبتي يا الله؟! أفَقْتُ من هواجسي المؤلمة على صوت ابتهالات الشيخ في إذاعة الراديو وهو يرتل بصوته الرقيقِ الهادئ القوي "يقبلُ الله التوبةَ عن عبادهِ ويعفُ عن السيئات..." اقتحمت هذه الآية قلبي؛ فأحسَستُ بنفسي تتسرب من ذلك الثُقْبِ الموجود ِ في داخلي، كان الظَلامُ دامسًا لدرجة أن ثُقبًا صغيرًا يُنير لي سماءَ قلبي، أولُ وضوء أستشعر فيه اغتسال القلبِ والروحِ والجسدْ، وأولُ صلاةِ تنهل فيها "زلازلَ الرعشة وفيضانَ الدموع وبركانَ الأحاسيسِ والمشاعر" لن أنسى ليلة ولادةِ قدري، ولا التي كانت سببًا في ولادته.
وفي الصباح كنت أمام بنايتها التي تنزل منها، فأنا خبيرة بمواعيد خروجها، وبمجرد أن خرجت من البناية دلفت إليها قائلة: أهلاً بمن تملكُ صوتًا عذبًا وروحًا نقيةً.
حدّقت لي باستغراب، وقالت: عذرًا، ماذا تقصدين؟! ومن تكونين؟!
رددتُ في سعادة: أتتني البارحةُ رسالةٌ ربانيةٌ متجسدةٌ فيكِ، وُلد قدري الليلة الماضية بسببكِ.
قالت: اعذريني، ولكنني لم أرَكِ من قبل، هلّا وضحتِ لي؟
قلت لها: فضولي الذي كان يقتلني؛ لأعرف من تكونين؟ وما سر ابتسامتك هو ما وصلني لما أنا فيه، ثم حكيت القصة لها بالتفصيل.
فقالت والدموعُ تملأ مُقلتيها: الحمد لله الذي هدانِي لهذا الوقتِ بالذاتِ؛ لأكون سببًا في إشعالِ نورَ قَلبكِ، الحمد لله صاحب الفضل والمنة، ليس لي دخل فيما أنتِ عليه، وإنما إذا أراد الله لشيء أن يقول له كن فيكون، والليلةُ الماضية كانت بدايةُ عيشكِ قصةَ حبك مع الله، أدامها الله عليكِ نعمة.
منذ تلك اللحظة وصارت موجهتي التي ترشدني دائماً لما هو صائب.
"لو علِمنا عظمةَ ولذةَ القربِ إلى اللهِ جل جلالهُ لاستحيينا أن نعطيهُ فاضلَ وقتنا. "
تمت
---------
#ربا_ درباز
#غيرتني

هناك 6 تعليقات:

  1. بسم الله مشاء الله عليكي وعلي افكارك الهادفة وتجسيدك للفكره �� بجد مش هعرف ازاى اعبرك عن روعة السرد ولا اختيار الكلمات ولا التجسيد ✋ برافووو بجد �� ربنا يوفقك لمزيد من التقدم يارب

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا جزيلا على الكلمات الطيبة غفر الله مالا تعلمون

      حذف
  2. رائعة، صدقًا. وخلقت في نفسي شعورًا ما.
    أود لو تراجعين القواعد الإملائية لئلا تعكر الأخطاء صفو هذه الكتابة المذهلة. وفقك الله لما فيه الخير. ❤

    ردحذف
    الردود
    1. جزاكم الله خيرا على كلماتك الجميلة ❤ أظن أن هناك مدققا في المجلة قد قام بالمراجعة وإلا فما نشروها ☺

      حذف
  3. كما هو معهود منك التميز والروعة
    وصلتى رسالة غلى هيئة قصة ربنا يجعلعا ى ميزان حسناتك
    قلتلك قبل كدا "انا قشعرت ولمستنى ولمسة قلبى اوى "
    بوركتِ يا ذات النفس التواقة ❤

    ردحذف
    الردود
    1. جعلها الله سببا في تغيير مجرى حياة شبابنا للأفضل باذن الله 💙

      حذف