توت أحمر
بقلم/ نيرة شنب
بأكفٍ
يكسوها التجاعيد يملأ «عمو محمود» لي برطمانًا بلاستيكيًل من التوت الأحمر اللذيذ
الذي اعتدت على شرائه منه يوميًا بعد خروجى من المدرسة.
يناولني
«عمو محمود» البرطمان ذا الغطاء الأحمر بابتسامة عذبة رقيقة؛ فأقف بجواره وأمسكه
بإحكام، وأنتظر أمي حتى تأتي بالسيارة؛ لكي تصطحبني للمنزل.
لكن
في هذا اليوم تأخرت أمي كثيرًا بسبب الزحمة ربما، ولذلك ارتبَكتُ وبدأ القلق
يتسرّب رويدًا رويدًا داخلي، وهذا ما لاحظه «عمو محمود»؛ فحاول أن يخفّف وطأة
الانتظار عليّ، وأعطاني كرسيّه الخشبي الذي يجلس عليه خلف عربته الصغيرة، وطلب مني
الجلوس.
جلست
ومايزال القلق يسيطر عليّ، وأنظر يمينًا وشمالًا بلهفة؛ علّني ألمح أمي.
منحني
«عمو محمود» برطمانًا آخر من التوت إشفاقًا عليّ، أو ربما لأنني كدتُ أبكي، وقال
لي بصوته الجشّ:
كُلِي هذا التوت، وعند انتهاءك منه ستأتي
أمك يا صغيرة.
فتحتُ
البرطمان ذا الغطاء الأحمر، وبدأتُ في الْتهام حُبيبات التوت الأحمر في سعادة
أنستني قلقي من تأخر أمي.
نظرتُ
لعمو محمود صاحب الابتسامة الساحرة، وسألته بلطف:
هل يُحب أطفالك التوت مثلي يا عمو محمود؟
قهقه
وأجابني:
أولادي لا يعلمون أنني أبيع التوت يا
صغيرة، هذا سر.
فقلتُ
بصوت منخفض هامسة:
حسنًا، لكن لماذا؟ التوت سيجعلهم سعداء
بالتأكيد.
سأحكي لكي الحكاية، كنت أعيش أنا وزوجتي
«وردة» بسعادة في منزل كبير وجميل، كنتُ أحبها، بل أعشقها، وكانت امرأة فريدة من
نوعها، تعاهدنا على العيش معًا والموت معًا، وتكوين أسرتنا الخاصة، ورُزقنا بمحمود
ووردة، لكنّها أخّلت بثاني عهد ورحلت وتركتني بعد انتصار السرطان عليها.
تجمعت
قطرات من الدموع فى عيني عمو محمود فجأة، وانهمرَت على خديه؛ فأسرعت بفتح حقيبتي
وأعطيته منديلي الأحمر الصغير الذي صنعته لي جدتي، فابتسم وقال:
لا داعى يا صغيرة.
وأكمل
حديثه بحزن على مضض:
بعد وفاة زوجتي شعرت بالحزن يتغلّل أعماقي
رويدًا رويدًا، حتى تمكنَت مني جلطة لازمْتُ الفراش على إثرها مدة طويلة، ثم
تعافَيتُ ببطء شديد، وأثناء فترة مرضي كان يتابع أولادي العمل فى المصنع، وأصبح
زمام الأمور بين أيديهم.
شعرتُ
بالشفقة على عم محمود؛ فعقدت حاجبي وكادت الدموع تنهمر من عيني، وسألته ماذا حدث
بعد ذلك، فحاول أن يكمل بعد أن أفرغ عينيه من الدموع:
-كنت لا أشعر بطعم لأي شيء غير هذا التوت؛
لأنها كانت عاشقة له، وهي من زرعته بنفسها فى حديقة منزلنا، فقررت أن أجمعه صباح
كل يوم وآتي هنا؛ لأبيعه بسعر رخيص للأطفال، لعلّ زوجتي تكون سعيدة الآن بهذا؛
لأنها كانت تحبه للغاية، ومن المؤكد أنها ستسعد بسعادتكم به.
ابتسمتُ،
وقلت:
من المؤكد أنها ستسعد بحبك لها أكثر.
لم
أكن يومها أدرك ما هو الحب بالتحديد، لكن كانت المعلمة «سناء» تخبرنا أن الحب هو
الإخلاص والوفاء، وأن الحب يجعل أي إنسان سعيد.
وصلَت
أمي أخيرًا، وركضَت نحوي واحتضَنَتْني بكل قوة، وشكرَت عمو محمود على جلوسي معه؛
لأنها تأخرت عليّ بسبب تعرضها لحادث.
اصطحبتني أمي من يدي وسرنا اتجاه سيارتنا،
ولكنني تحررتُ من يدها سريعًا وهرولتُ باتجاه عمو محمود وطبَعتُ قُبلَة على جبينه؛
فقام برفعي فى الهواء ومنحني برطمان توت آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق