ما لا يقال



قصة قصيرة
"ما لا يقال"
                                                   حسام قنديل
الواقع الافتراضي الذي خلقته وسائل التواصل الإجتماعي لم يكن غريبًا أو جديدًا، كل ما فعله هو
نسخ عوالم كنا نعيشها بين بعضنا البعض بوجوه مبتذلة، و جعلنا نعيشها ذاتها، و لكن على سحابة إلكترونية.

(1)
من أصعب ما يمكن وصفه، تلك الفترة في حياة أحدهم عندما تتغير أو تتشكل أو يعاد تعريف رؤيته للعالم.
تزداد الصعوبة وصولًا إلى حدود الاستحالة إن ارتبطت تلك الفترة ببداية الخروج طردًا مُطاردًا من عالم شبه مثالي بلا أي التزامات، عالم رؤية ما فيه و من فيه محدودة بإطار يمكن التحكم فيه بقليل من الحذر.
عاش أيمن عبادي تلك الفترة الزمنية خلال عامه الرابع بعد السنة التحضيرية في كلية الهندسة، مرحلة بدأ فيها الخروج إلى عالم الحقيقة بما يحمله من تفاصيل، ومعرفة بشَر خارج قوقعته التي عاش فيها اختياريا -وإجباريا أحيانًا- خلال أعوام ما قبل الجامعة وأعوامه الأربعة في الجامعة. أيمن الذي كان بطلًا رياضيًا فرضت عليه حياة المعسكرات والمنتخبات حياة شبه عسكرية، يتعرض الآن لمرض صدري عنيف جعل مجرد التنفس عملًا يحتاج لمجهود، لا سيما مع أي حركة بسيطة كركضٍ أو مشيٍ سريع، أو حتى سعال أو ضحك... نشاطات عادية يمكن لأي آدمي ممارستها بدون أي مشكلة، لكنها مع أيمن في فترته الحالية كانت ترتبط بما يحدث بعدها من نوبة ضيق تنفس عنيفة تستمر لدقائق، حتى يمكنه التحكم في hنتظام تنفسه. أخبره الطبيب الأخير الذي شخّص حالته بعد ستة أطباء أنه أسوأ التهاب شعبي رآه في حياته، و أنه لا يمكن علاجه إلا بحقن مضادات حيوية عنيفة تستمر لنحو شهر كامل، يمكن بعدها أن يعود لطبيعته.
قال له سامح صديقه المقرب أنه لن يعود لطبيعته أبدًا. سامح كان أقرب أصدقاء أيمن، لا لشيء إلا لأنه الصديق الوحيد، حضر سامح تلك النوبات أكثر من مرة عند ركضهم خلف الحافلة للحاق بها، أو عندما كان يتسبب لأيمن في نوبة ضحك بسبب تصرفاته الخارقة للمألوف، و التى تفاجئ أيمن في كل مرة و تفقده التحكم في ضحكه... كانت عبارة سامح من باب تفاؤله و صراحته –وفي بعض الأحيان – بجاحتة التي تقبلها أيمن بدون أي تفسير رغم تحفظه، أما سامح فقد كان يعلل طبيعته مفتخرًا بأنه من النادرين الذين لا يحملون تناقضًا بين جوانبهم القذرة، وما يظهرون به أمام الناس، لذلك لا يعاني مثل أيمن الذي يضع عشرات الحواجز في العادة بين ما يريد و ما يفعل حقًا.
كان دخول كلية الهندسة هو الشيء الوحيد شبه الإرادي الذي فعله أيمن في حياته، إلا أن ذلك حدث فقط لتلاقي شبه رغبته مع ما رسمه والده له، و ما تمنت أمه أن تراه فيه، و ما رآه عمه في طالع مستقبله الذي اطلع عليه في مكان ما.. ضيق مجال اختيارات أيمن جعل طريقة ملبسه، و طريقة كلامه، و ما يقول و جُلَّ ما يفعل خاضع دومًا لعشرات الفلاتر التي تضع حدودًا على أبسط ما يريد، حتى أنه كفّ في خضم ما يمارسه خلال حياته عن التطلع خارج إطاره الشخصي للتقرب من أحدهم، أو نيل صداقة أحدهم، أو حتى التورط عاطفيًا مع إحداهن، و لم يعترض على المعاملة القاسية التي يتلقاها من أغلب من يمرون في حياته، و لم يبدِ مقاومة لأي مما فرضه عليه والداه في المنزل، أو أساتذته في الجامعة، و قبلها أثناء دراسته في مدرسته، لم يعاتب من استغله أو استغل أيًا مما يملك من زملائه لفترة ثم لفظه متى فرغ منه و نال ما يريد.. ربما كان ذلك سبب محبته لسامح الذي لم يبدِ اهتمامًا باستغلاله رغم أنه –سامح– رآه ثقيل الدم، سمجًا، صامتًا في البداية، ليكتشف عند الاقتراب من أيمن أن صديقه العزيز بطل رياضي، مثقف، ثري، كاتب لبق، يرى و يلاحظ الوسط المحيط بعشرة أضعاف قدرة الملاحظة العادية لأحدهم، و يتذكر تفاصيلًا دقيقة لأحداث و عبارات نصية لم يكن يمكن إلا لصاحب عقل إليكروني أن يتذكرها بهذه الدقة.
صاحب هذا العقل الإليكتروني الآن مريض لا يقوى على التنفس.. مريض بدأ التعرف على العالم الحقيقي لتوه من بوابة صديقه الذي شرخ زجاج عالم أيمن المغلق؛ ليشعره أن ثمة تفاصيلًا يمكن أن يراها خارج حدوده الذي حصر نفسه خلفها.
(2)
من أصعب ما يمكن وصفه، تلك الفترة في حياة أحدهم عندما تتغير أو تتشكل أو يعاد تعريف رؤيته للعالم..
في حالة سامح لا يكون الوصف بهذه الصعوبة، فسامح كان لديه شبه يقين بأن العالم قذر، و أن حظه التعيس قد قًدر له أن يعيش في أقذر بقعة من هذا العالم، و أن يسكن في أقذر منطقة من أقذر بقعة من العالم القذر، و استمرارًا لجينات النحس التي يحملها -أن يتعامل مع أقذر مخلوقات في أقذر منطقة من أقذر بقعة في هذا العالم القذر.
هكذا عبر أيمن صديقه المقرب عن حالة سامح في أحد جلساتهما، عندما قررا فجأة ترك المحاضرات لهذا اليوم و الاستمتاع بوجبة فول و فلافل و طن من البصل الأخضر المساعد على النوم كنوع من التغيير. أيمن كان حكيمًا جدًا يجيد التعبير، لكن على الورق أو مع سامح فقط.. أي نعم هو يعاني الآن مرضًا لا يعتقد سامح –بوجهة نظره المتفائلة– أنه سيشفى منه أبدًا، إلا أن وجود مثل أيمن و التقرب منه يشبه تمامًا مرهم "كيناكومب" لمريض تلسخات مزمنة كما كان سامح يشبّه الوضع.
سامح كان يعتبر أيًّا مما أو من يدخل حياته جزء من عالمه السابق وصفه إلى أن يثبت خلاف ذلك، و خلاف ذلك ثًبَتَ مع أيمن في ثلاث سنوات، تزاملًا خلالها في الدارسة الثانوية، ثم عام كامل صديقا طاولة واحدة، و حافلات مشتركة في الجامعة، ثم صداقة لا تنفصم لثلاث سنوات لم يُخفِ فيها أحدهم عن الآخر شيئًا، و رغم تزامن تلك الصداقة مع بدايات فترة انتقال سامح من مرحلة شبه اليقين في قذارة العالم إلى اليقين الكامل، فإن وجود أيمن في حياته أصبح هو الحاجز الوحيد الذي يمنعه من التحول إلى قاتل محترف، أو مدمن مخدرات؛ لأننا بحاجة لمن يعيدون إلينا الثقة في نقاء العالم، كما كان يقول أيمن له و هما يلتهمان الفول.
الفرصة الحقيقية هنا للاسترسال هي: كيف تحول سامح من مرحلة شبه اليقين إلى اليقين الكامل؟!
لا يوجد سبب محدد، لكن الوصول إلى منطقة كره أو بغض أو حقد أو نفور لا يكون عادة بين عشية و ضحاها، و إن ظن الواصل أنها حدثت كذلك.. كان مبدأ تراكم رؤى اليقين على مدار فترة ممتدة في نفس سامح هو ما أوصله إلى تلك النقطة.. الطبقات التي تراكمت و شكّلت يقينه في تقييمه لعالمه كان منها استيقاظه مع مرور قائد دراجة النارية في الثانية صباحًا مشغلًا مذياع دراجته، و مستخدمًا أعلى مستوى صوت ممكن تم تضخيمه عمدًا بأجهزة مساعدة، لا لشيء إلا لإيقاظ النائمين و عدم السماح لهم بالنوم و لو لفترة مرور قائد الدراجة عبر الحي وصولًا إلى أحياء أخرى. قانون الصدفة ينهار هنا عن محاولة النظر إلى الجانب المشرق في الحدث؛ لأن هذا المشهد تكرر مع سامح و حيُّه يوميًا تقريبًا لستة أشهر، و حكاه له أيمن الذي يعيش في حي أكثر رقيًا و إن لم يكن بعيدًا عن سامح بنفس التفاصيل تقريبًا، و إن كانت الأغنية مختلفة. طبقة أخرى تكوّنت عندما مر سامح يومًا مع صديقه في سيارته التي يأخذها ليمرا عبر نقطة تفتيش لا داعي لها، في شارع متسع من منطقة آمنة جدًا، قرر فيه مجموعة ضباط على سبيل التسلية تعطيل المارين فيه قليلًا بدون حتى النظر إلى داخل السيارات؛ للبحث عن ذلك التهديد الوهمي الذي ينتظرونه، فسمحوا بالمرور من حارة واحدة فقط و جزء من حارة أخرى، و عندما تأفف المارون بإطلاق نفير منزعج، و مع مرور سامح و أيمن إلى جوار الضابط سمعه سامح يضع طبقته على بناء يقينه قائلًا  "ضيّق يا ابنى الحارة دي أكتر لحسن الناس الـ....... -سبّ- شكلها مش عاجبها".
أكثر طبقات يقين سامح صلابة تكونت في ليلة كان مع أيمن في منزله ينقلان حرفيًا حل أحد الامتحانات المنزلية التي كان يكلف بها الطلاب، و ينسخون حلها من بعضهم البعض بصورة إسبوعية منتظمة، و وصل والد أيمن الذي كان يقضي أجازة قصيرة في مصر من عمله بالخارج، و الذي بدأه مع دخول ابنه إلى الجامعة. أمر ما كان على غير ما يرام، فقد نادت والدة أيمن ابنها من الداخل؛ لأن والده متوعك، خرج أيمن و كان سامح قد وصل لمرحلة تداخل مع عائلة صديقه تسمح له بأن يرافقه إلى صالة المنزل؛ ليجدا الأب و قد استرخى على المقعد و بدا منهكًا متألمًا، حتى جاءت أخته –عمة أيمن– الطبيبة و تعاملت مع الموقف، ثم ساعدته والدة أيمن بعدها على تبديل ثيابه و الاستراحة قليلًا.. الطبقة تكوّنت مع رواية والدة أيمن: أن والده كان في أحد البنوك الراقية؛ لإنهاء بعض المعاملات، و نظرًا لمرض شيخوخة أثّر على بروستاتا الوالد صاحب الستين عامًا، كان بحاجة لدخول دورة المياه التي أخبره فرد الأمن الذي لا يعرفه و لم يره من قبل أنها "زحمة جدًا... و عطلانة" في نفس الوقت.. ظل الرجل يعاني قرابة الساعة، و رجل الأمن مُصرّ على إجابته، حتى جلس الوالد مع موظف البنك الذي أخبره أن هناك دورة مياه للعملاء، فذهب مسرعًا؛ ليجد دورة مياه نظيفة راقية قابلة للاستعمال، لا "زحمة" و لا  "عطلانة" في ذات الوقت كما أخبره فرد الأمن الذي اختفى تمامًا.
 -           عندما أتخرج.. مستعد أن أمسح بلاطًا، و أنام على قارعة طريق أكثر بلاد العالم انحطاطًا على أن أستمر هنا.
هكذا ختم سامح جلسة الفول و الفلافل و البصل التي ستؤدي بالتأكيد إلى نوم سيمتد لصباح اليوم التالي... الرغبة في الأذي و تبادل التعذيب بين كل ما و من يحيطون بعالم سامح، و يحددون توجهه نحوه كانوا العامل المشترك بين كل طبقات توجهه نحو يقين بقذارة العالم، و من ثم رفضه له، و الاستعداد لبذل أي تضحية لمغادرته للأبد، دون النظر للخلف.. لكن أسماء كانت السبب الوحيد الذي قد يجبره أن يلتفت للخلف، بل و يبقى، و الشيء الوحيد الذي يعتبره سامح سببًا يمكن لأيمن أن يحسده عليه، رغم تأكده أنه لن يفعل؛ لأنه يثق به لدرجة أنه لم يأتمن وجودها و حركتها و تنقلها إلا معه بعد نفسه، حتى أنه كان في بعض الأحيان يطلب منه أن يقلها من مكان تتواجد فيه إلى المنزل عندما يعجز –كسلًا في معظم الأحيان– عن إيصالها للمنزل.
(3)
من أصعب ما يمكن وصفه المشاعر في تلك الفترة غير الناضجة من حياة تقع بين فترة المراهقة المليئة بالتخيلات الجامحة، و فترة النضج الجزئي المتداخل مع صدمات الواقع، و تدمير التوقعات ما بعد الخروج إلى ممارسة الحياة الحقيقية. فترة المراهقة تتفاعل فيها الأنفس مع بُعد خفيّ، قد تكون الشياطين هي من تحكمه و تتواصل منه مع أغلب من يمرون بهذه الفترة؛ لتوهمهم بقدرتهم على فهم المشاعر، و الحب، و الشغف، و العشق، و أين تذهب النجوم في الصباح..؟ 
 يستمر هذا النوع من التواصل فى الطرق على غشاء النفس الحساس، الذي يحميها من معرفة حقيقة العالم في فترة البيبن بين، و إن كان الطرق نبضات فقط، لا تسمح لسامعها بالعيش المطلق في العالم الموازي كمراهق، لكنها لا تفتأ تذكره بأنه بعضًا من نفسه لا يزال سجين تلك الفترة، فتحكم بعض تصرفاته الأصوات المنادية من خلف الركن المظلم الذي لا نفهم عنه شيئًا.
حساسية تلك الفترة التي يعجز أي عاقل و يبغبغ كل مدعٍ عن فهمها، تكمن في قابلية اختلاط المشاعر الحقيقية بالرغبات و التشوهات النفسية، فقد يفقد أحدهم القدرة على تمييز الحب عن مجرد الاشتهاء الذي يكون في أوجه، أو التطلع إلى التمييز عن الطمع و الرغبة في تدمير المنافسين، القرب من الله و الرغبة في التعالي بهذا القرب، الرغبة في عالم مثالي و الإيمان بحتمية تدمير ما هو على غير تلك المثالية على مقياس قاصر محدود بصاحب القناعة و الرغبة، الصداقة و المصلحة البحتة، الرغبة في البقاء جوار أحدهم و الإيمان بقذارة المجتمع و انعدام الثقة في الجميع، حتى ذلك الذي ترغب في البقاء إلى جواره؛ لحتمية كونه تأثر -و لو جزئيًا- بقذارة العالم، و بالتالي حتمية المراقبة المستديمة لهذا الشخص للتأكد من تخليصه من شوائب احتكاكه و تعامله مع العالم. سامح فعل ذلك تحديدًا مع أسماء، كان يعشقها كما لم يفهم أيمن أبعاد هذا الشعور الذي لم يجربه، و يرغب في البقاء معها أبدًا، لكنه يؤمن أنها ستحاول يومًا التلصص عبر شقوق نفسه، و عدم ثقته فيها أو فيما يحيطها؛ لتبحث عن آخر يمنحها مشاعر أكثر رُقيًا من شخص يراقبها يوميًا و يحصي عليها أنفاسها، و يعتبر مجرد إلقاء سلام منها على شاب آخر خيانة، كان هذا التصرف بالذات ما يضع صديقه أيمن في حيرة لا نهائية؛ لأنه يعلم يقينًا أن
 سامح ليس بذلك القدر من الإخلاص لحدود تعدت مجرد إلقاء السلام على أخريات، إلى مرحلة تبادل القبلات، بعد دعوة مغرية لإحداهن ممن يعتبر سامح مجرد القرب الجسدي منها فرصة لا تفوت لمنزله الخالي. التناقض لم يزعج سامح يومًا بقدر ما كان يحير أيمن الذي كان يعرف كل التفاصيل التي لا يمكن أن تقال، و إلا لزادت طبقة خيانة الأصدقاء –من وجهة نظر صديقه– إلى طبقات استقذار سامح للعالم، كان تفسير سامح الغريب لما يفعله هو أن ما يفعل مع أسماء هو  محاولة جعلها في أفضل صورة بالنسبة له، لعلها تقنعه قليلًا بوجود ما يستدعي الحياة من أجله في هذا العالم.
لو تذكر سامح ذلك الشعور و التطلعات و القناعات و هو في الأربعين لسقط على الأرض ضحكًا من بلاهتها، لكنها بالنسبة لذلك السن المجنون تقترب من حد القداسة حسب ما يختلط في نفس كل من يعيش هذه الفترة.. أيمن مثلًا كان يرى ما سيحدث و كأنه يحدث، و إن لم يفهم تحديدًا ما يعنيه... سامح كان يدخله إلى أعماق علاقته بأسماء، و أسماء كان تدخله إلى أعماق علاقتها و مشاعرها نحو سامح الذي تحبه، و إن تأكد أيمن أنه لو سألها ما معنى "الحب"..؟ لما استطاعت إجابة هذا السؤال، لكنها في نفس الوقت متأكدة أن سامح لا يُقدر ما يتطلبه هذا الحب من "حفاظه عليها" بنفس المنطق العاشق للعبارات الفضفاضة المبتذلة –من وجهة نظر أربعينية– و التي يتبادلها العشاق الفتراضييون في تلك الفترة.
بعد سنوات سيكتب أحدهم أن الواقع الافتراضي الذي خلقته وسائل التواصل الإجتماعي لم يكن غريبًا أو جديدًا، كل ما فعله هو نسخ عوالم كنا نعيشها بين بعضنا البعض بوجوه مبتذلة، و جعلنا نعيشها ذاتها، و لكن على سحابة إليكترونية.

(4)
من أصعب ما يمكن وصفه ذلك اليوم الذي كان يراه أيمن قادمًا، و يتعامى سامح عن رؤيته، في ذلك اليوم اختفى سامح فجأة، بعد أن اختفت أسماء قبله بأسبوع، و فشل كل مساعي الجميع للوصول إلى أيهما.
أيمن الوحيد الذي كان يعرف أين يبحث عن سامح، و كان يعرف أيضًا ماذا سيسمع، سامح كان جالسًا في شقة والده في أعماق إمبابة، و بعد فاصل من الطَّرْق الهستيري على الباب فتح سامح الباب بوجه لامبالٍ، و عينين تقولان " ألم أقل لك يا صديقي أنه عالم قذر..؟ و أنها لا تختلف كثيرًا عن هذا العالم..؟".
أشار سامح لصديقه بالدخول ثم جلس قليلًا مطرق الرأس، زجاجة من البيرة و عشرات السجائر تنبئ عن طبيعة الليلة التي مرت هنا، خاصة أن سامح لا يدخن كثيرًا.
" أسماء اتخطبت من أسبوع.. فجأة لقيتها بتكلمني و تقولي إنها اتقدم لها واحد عن طريق واحدة صاحبتها، و إنها استخارت ربنا و شافت نفسها معاه في الكعبة، و علشان كدا هي وافقت، إنما لو كانت إستخارت عليا كانت هاتلاقي نفسها معايا في كباريه، هي بترقص و أنا بطبّل. مش قلت لك يا صاحبي..؟ أنا مش مضايقني الوساخة، أنا مضايقني إنها بتحاول تلبس الموضوع جلابية بيضة و سبحة، علشان يبقى بأمر إلهي و متحسش بالذنب"



قالها سامح مع عشرات الشتائم و اللعنات، فجلس أيمن مبتسمًا و ضحك ضحكة قصيرة دفعته لتلك النوبة، و قال بعدها:
-           و إنت يعني ماكنتش ناوي تشغلها في كباريه..؟
نظر إليه سامح شذرًا، ثم على طريقة الأفلام ابتسم، ثم اتسعت إبتسامته حتى تحوّلت لضحكة شاركه فيها أيمن الذي استسلم لنوبة الضحك التى دامت لساعات مع صديقه، و المختلطة بأزمة الربو، التي كان يقطعها سامح أحيانًا بإشارة لذكري له مع سامح مع فاصل من التندر و الاستهزاء.
" فاكر لما حاولت أمسك إيدها فأغمي عليها، ساعتها صاحبتها جت و انت جيت.. صاحبتها سابتني أنا اللي كنت هاقلع الفانلة و أهويلها علشان تفوق، و عمال أرش على وشها مية و أعيط، و بصت عليك و انت واقف زي تمثال رمسيس على العمود بتتفرج، و قالتلها بعد ما فاقت "على فكرة الواد اللي كان واقف قلقان بعيد دا بيحبك يا أسماء..." لما قالت لي كدا مُتّ من الضحك، و قولتلها لا متقلقيش أيمن شاذ أصلًا... ساعتها طلعت تجري من قدامي علشان كانت بتتكسف، و علشان لو انت شاذ أكيد أنا هابقى اللي انت مصاحبه".
لم يكن أيمن شاذًا بالطبع، و لكن الخوض مع صديقه الذي يعرفه جيدًا في مثل تلك الحوارات كانت الطريقة الوحيدة لإعادته للحياة؛ لأنه يحبها حقًا، لكن كرهه للعالم القذر كان أكبر بكثير من حبه لها... و عندما يجتمع من تحب مع ما تكره في مكان، فمن الطبيعي أن يتحول مجموع الحب و الكره إلى تكتل كره نحو المكان..
 " زمانها دلوقتي بتجهز للفرح، تخيل الخازوق.. أقعد أحب فيها 4 سنين و في يوم تقولي جايلي عريس، بعدها بيومين تقولي أنا هاتخطب بكرة، أكيد بكرة هاتقولي أنا اتجوزت، و آخر الإسبوع هايبقى عندها عيل".. بهذا أنهى سامح الجملة ثم أخذ ذراع صديقه خارجًا من المنزل في اتجاه مسمط قريب؛ لتناول العشاء.
(5)
لم يفهم أيمن الحب أبدًا..
ربما اقترب من أسواره و عرف بعض الأشياء، لكنه بالتأكيد كان يعرف أن ما فعلته أسماء، ذات الوجه الملائكي و العينين الحزينتين، و الابتسامة التي تملك القدرة على إذابة الأحجار، و بعث روائح الليمون و الريحان في أي مكان تنعم عليه بالابتسام فيه لم يبدأ فجأة، و إنما عبر تراكم طبقات في نفسها هي الأخرى عندما كانت تتعرض للامنطقية عاشق يكره العالم، و يربط نفسه بها بالشكل الذي يريده هو و الطريقة التي يريدها هو.
كان أيمن يعيش وحيدًا في هذه الفترة لسفر والدته و أخواته؛ لزيارة والده و أداء فريضة الحج، التي لم يوفق في نيل تأشيرة دخولها لكونه طالبًا في السنة النهائية بعد... ليالي أيمن الأخيرة كانت خاوية بشدة، خصوصًا بعد انعزال سامح النسبي؛ لرغبته في صياغة رؤية أكثر بشاعة للعالم عبر الكثير جدًا من العلاقات النسائية بمنطق دواء النسيان لهذا السن، و الذي يمكن أن يكون كوبًا من القهوة فقط لو فقد حبيبًا في سن الثلاثين، و عطسة لو فقده في سن الأربعين.
 لم يكن لأيمن أصدقاء كُثُر، و لم يكن صاحب تطلعات في نُزَهِ مع أصدقاء أو حتى وحيدًا، و تسبب مرضه في التوقف التام عن الرياضة التي كانت تسريته الوحيدة، بجانب القراءة التي بلغت شراهته فيها مبلغًا لم يتوقعه هو شخصيًا خلال فترته الحالية، لذلك كان من العجيب أن يدق جرس الباب في التاسعة مساءً بشكل متصلٍ ينبئ بشخص ينتظر أسفل البناية و يحتاج أمرًا عاجلًا.. لم يكن البواب بالتأكيد؛ لأنه يكره أيمن بدون سبب واضح، و لم يكن سامح لأن يملك نسخة من مفتاح المنزل، رفع أيمن سماعة الهاتف الداخلي؛ ليسمع آخر صوت يمكن أن يتوقعه في هذه اللحظة بالذات قائلًا: 
-           أيمن.. أنا أسماء.. ممكن تنزل شوية؟ أنا عايزاك.
(6) ما لم يقله أيمن
"معادلة غريبة، صوتها صوت إنسانة تبكي منذ عقود، إنسانة محافظة، من عائلة ملتزمة، خرجت بمعجزة ما من بيتها ليلًا؛ لتطرق بابي أنا بالذات دونًا عن غيري و تطلب مني أن أنزل للحديث معها، بصوت يحمل رجاءً لشيء لم أفهمه، لكنه لا يتعلق بسامح الذي بدأ ينسى الموضوع".
لم أملك أمام ذلك الصوت و ذلك الشخص إلا أن أرتدي ثيابي على عجل، متفاديًا نوبة ربو في الطريق، و أنزل من منزلي في الدور الثاني؛ لأجدها واقفة أمام باب المنزل، و قد فقدت نصف وزنها القليل أصلًا، فبدت كهيكل عظمي ضئيل، و فقدت عيناها ذلك البريق الذي كان يمكن أن يبعث الحياة في مومياء... كان هنا تصرف واحد فقط يمكن أن يكون منطقيًا عند هذه اللحظة، كما كان هناك كلام لا يقال هو الموضوع الطبيعي الوحيد لما أريد قوله.
 جملتها التالية دمرت مقاومتي عندما قالت "لم أعرف أين اذهب؟ فوجدت قدماي قد قادتني إلى هنا". مقاومتي كانت لأن أخبرها أنني أسمع طرقة الآن من عالم شياطين المراهقة الذي تجاهلته لسنوات تؤكد لي أن ما خرج من شرنقتي هو حب، و أنني أحب هذا الملاك الذي تتوسل عيناه كلمة "أحبك" مني، لكن أيًّا مما يجب أن يحدث سيؤكد لسامح -الذي لم يعد يهتم- أن العالم أكثر قذارة مما يتخيل.
خرست.. و إن قالت عيناي الكثير ردًا، ثم مشينا قليلًا في اتجاهات عشوائية لا نتحدث... تبكي هي فقط، و أحاول أنا أن أستجمع بضع كلمات أقولها.. أخيرًا بدرت منها عبارة مشتتة، أنها لابد أن تعود للمنزل؛ كي لا يقلق عليها خطيبها و أهلها... قلت لها أنني لا أستطيع أن أتركها و هي في هذه الحالة، فردت بحكمتها التي كانت تذهلني دومًا، أن الطريقة الوحيدة التي يمكن ألا أتركها بها هي فعل لن أجرؤ على الإتيان به، لإخلاصي لمجموعة مبادئ قد تكون هراءً.. لكنها تظل مبادئ، حتى إن كانت هي مستعدة لتحمل عواقب هذا الفعل المناقض لهراء مبادئي.
اختارتني أسماء؛ لتخبرني دون حديث بأنها ضائعة و حائرة بين ما يرشدها إليه بوضوح عقل وضعها في طريق شخص مثالي؛ لتكوّن معه أسرة، و قلب تعلق يومًا بالشخص الخطأ فربطها به بذكريات و تعلق لا تحبه و لا تحترمه، و ما تريده و أريده حقًا، و يمكن أن تضحي بكل ما جلبه له عقلها و علقها به ماضيها في لحظة واحدة من أجله.
كل ما تنتظره و ما يحتاجه الأمر كلمة واحدة من شخص توقن أنه لن يفعلها و هو أنا.
 شخص تمالك نفسه و ربت بهدوء على كتفها، و تقبلت هي تلك اللمسة برجفة ليست كرجفة الرعب التي تلمكتها من قبل عندما لمسها أحدهم.. نظرتُ إلى عينيها في وسط الطريق، ثم حاولتُ مداراة دمعة ترقرقت في عيني ففشلت، هذا وقت ما لا يقال؛ لأن ما يجب أن يقال هو "سأوصلكِ إلى أقرب مكان لمنزلكِ.. اصعدي و صلّي ركعتين و اطلبي من الله أن يريكِ الصواب، و صدقيني... شخص بنقائِكِ لن يضيعه الله أبدًا".
صلابة صوتها لم تتماش وقتها مع سيل الدموع الذي صدق أن يقينها بأني لن أفعلها صحيح، صلابة لا تستطيعها إلا تلك الفتاة التي تبهرني دومًا بما تملك، و ما تقول "لا... سأعود وحدي.. خلّي بالك من صاحبك.. و من نفسك"
بضعة أشخاص فقط أذاقوني طعم مشاعر لم أفهمها، طعم أدمنته و لم أتوقف للحظة عن البحث عنه و لو بأدوات مشوهة وضعته في صورة مشوهة، لم ينقذني من فقدان الإيمان بوجود أصل نقي لها إلا استحضاري لصورة أسماء تمضي إلى منزلها تاركة إياي واقفًا على قارعة الطريق، أفكر أنني ضيّعت توًا مخلوقة كتلك لمجرد أن أتفادى إثبات أن العالم قذر لشخص موقن يقين التقديس في قذارة العالم". 
تمت
---------
#حسام_قنديل
#ما_لا_يقال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق