مي زيادة

شخصية العدد
عروس الأدب النسائي
«مي زيادة»
بقلم/أحمد الحسيني


«أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني، ويستخرج من كتاباتي الصغيرة المتواضعة ما فيها من روح الإخلاص والصدق».
كانت تلك كلمات الأديبة والمترجمة والباحثة والخطيبة والكاتبة... رائدة الأدب النسائي، ومبعث الوحي والإلهام لأدباء وشعراء عصرها، وصاحبة النصيب الكبير في نهضة الأدب والشعر العربي في وقتها، عروس الأدب النسائي كما لقبها أدباء عصرها «مي زيادة»
ولدت ماري إلياس زيادة بالناصرة بفلسطين سنة 1886م لأب لبناني وأم فلسطينية، درست بين القاهرة ولبنان ثم انتقلت بعدها مع أسرتها إلى القاهرة، فدرست الآداب وأتقنت عدة لغات، منها: الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية، وكتبت ديوانا بًالفرنسية سمته «أزاهير الحلم»، كما ترجمت من الألمانية وغيرها.
تقول عن نشأتها: «ولدت في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تتنقل من بلد إلى بلد».
كانت مي منفتحة على الآداب والثقافات العالمية؛ لإتقانها العديد من اللغات، واسعة الثقافة ومتحررة إلى حد ما من انغلاق المجتمعات العربية في وقتها، فأنشأت صالونًا ثقافيًا أسبوعيًا، أو ما يسمى « ندوة الثلاثاء « جمعت فيه أعلام الأدب كالرافعي، وأحمد شوقي، وطه حسين، وأحمد حسن الزيات، وإسماعيل صبري... وغيرهم، واستمر الصالون لعشرين عامًا .
وكانت تملك زمام النقاش في صالونها؛ توجهه حيث شاءت بحسن منطقها وسعة ثقافتها وحلاوة روحها، قال عنها الأديب أحمد حسن الزيات: «كانت تشارك في كل علم، وتفيض في كل حديث، وتختصر للجليس سعادة العمر كله في لفتة أو لمحة أو ابتسامة»
ونتيجة لذلك تعلق بها وأحبها كثير من الأدباء حبًا روحيًا نادرًا؛ فكان عشاقها كثيرون، منهم العقاد الذي تعلق بها ولم يتعلق بأنثى غيرها حتى مات عزَبًا، أرسل لها بعض كتبه فلم ترد عليه؛ فقال «ليت ذلك عن عمد؛ فالعقاب أهون عندي من الإهمال»
ومنهم الرافعي الذي تعلق بها بعلم زوجته، وكان حبه لمي سببًا في كتابة «أوراق الورد» و«رسائل الأحزان»، وكان يخرج كل ثلاثاء من طنطا لحضور الصالون الأدبي لمي زيادة يكفيه أن ينظر إليها، وكان يلقبها مادحًا بـ «الشيطانة».
لكن مي كان قلبها معلقًا بشخص واحد رغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة طوال حياتيهما.
في حفل للجامعة الأمريكية بالقاهرة أرسل الشاعر جبران خليل جبران قصيدة ألقتها مي زيادة، بعدها توطدت علاقة حب بينهما لعشرين عامًا يتراسلان ولا يلتقيان ولو لمرة واحدة، وكانت الرسائل بينهما مليئة بالعاطفة مفعمة بالمشاعر .
ومن كلامها: «إني أخاف من الحب كثيرًا، ولكن القليل من الحب لا يرضيني».
نشرت مي في مجلة الزهور، والمقتطف، والهلال، وجرائد المحروسة، والسياسة، والرسالة، ونشرت عدة كتب، منها: «باحثة البادية»، «كتاب المساواة»، «عائشة تيمور « وغيرها، وكانت محبة للتصوير والموسيقى .
عاشت مي السنين الاثني عشر الأخيرة من حياتها في مأساة؛ فقد توفي والدها عام 1929م، وعانت بعد وفاته، وتبعه جبران عام 1931م، ووالدتها عام 1932م؛ ففقدت كل أحبائها دفعة واحدة، واضطربت حالتها النفسية؛ فأرسلها أصحابها إلى لبنان؛ حيث ذووها، الذين أساؤوا معاملتها وحجروا عليها وأدخلوها مستشفى العصفورية للأمراض العقلية ببيروت، وبقيت فيها عدة أشهر، فاحتج الوسط الأدبي والثقافي بشدة على هذا السلوك، لتُنقل إلى مستشفى خاص وتعود بعد فترة إلى القاهرة .
وفي عام 1941م حين توفيت مي زيادة في مستشفى المعادي العسكري عن 55 عاماً، ورغم كثرة أصدقائها ومعارفها لم يمشِ في جنازتها منهم سوى ثلاث: أحمد لطفي السيد، وخليل مطران، وأنطوان الجميل .
تقول مي: «أنا امرأة قضيتُ حياتي بين قلمي، وأدواتي، وكتبي، ودراساتي، وقد انصرفت بكل تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة المثالية التي حييتها جعلتني أجهل ما في هذا البشر من دسائس».
قال فيها الشاعر إسماعيل صبري :
روحي على بعض دُور الحي هائمةً
 كظامئ الحي توّاقاً إلى الماءِ
إن لم أُمتِع بمي ناظرِي غداً
أنكرتُ صُبحَك يا يومَ الثلاثاءِ
وقال أمير الشعراء أحمد شوقي :
أُسائِل خاطري عما سباني
أحُسنُ الخلقِ، أم حُسن البيان
ومما رثاها به العقاد :
شِيَمٌ غرٌّ رضيات عِذابٌ
وحُجَى ينفذ بالرأي الصوابِ
وذكاءٌ ألمعيٌّ كالشهابِ
وجمالٌ قُدُسيٌ لا يعابِ
كل هذا في الترابِ!
آهٍ من هذا الترابِ
_______________
من رسائل مي زيادة
إلى جبران خليل جبران
من مي الى جبران
القاهرة  ١٥ كانون الثاني ١٩٢٤
 جبران !
لقد كتبت كل هذه الصفحات؛ لأتحايد كلمة الحب، إن الذين لايتاجرون بمظهر الحب، ينمّي الحب في أعماقهم قوه ديناميكية رهيبة، قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألئ السطحي؛ لأنهم لايقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر،  ويفضّلون تضليل قلوبهم عن ودائعها، والتلهي بما لاعلاقه له بالعاطفة...  يفضلون أي غربة، وأي شقاء (وهل من شقاء وغربة في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.
مامعنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به! ولكني أعرف أنك «محبوبي»، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير. الجفاف والقحط واللا شيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرّط فيه؟  لا أدري.
الحمد لله أني أكتبه على ورق ولا أتلفّظ به؛ لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمنًا طويلًا، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى.
حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانًا، لأني بها حرة كل هذه الحرية،  قل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى؛ فإني أثق بك، وأصدق بالبداهة كل ماتقول!
وسواء كنت مخطئة فإن قلبي يسير إليك، وخير مايفعل هو أن يظل حائمًا حواليك، يحرسك ويحنو عليك.
غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال الأشكال والألوان، حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزهرة، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وُجد فيها من هي مثلي، لها جبران واحد، تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحبه؛ فتتسرب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي القلم جانبًا؛ لتحتمي من الوحشة في اسم واحد :
جبران!

---------

#مي_زيادة

#أحمد_الحسيني




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق