الوصايا

مراجعة الخان
رواية "الوصايا"

للروائي/ عادل عصمت

بقلم/ أسماء عبدالخالق

لم أكن أتخيّل أن تجذبني الرواية حتى أنتهي منها تمامًا؛ فالكاتب هنا له لغته الخاصة به المعتمدة على السرد المكثف وجمل الحوار القصيرة المقتضبة، وعالمه المفضّل المنتمي إلى الريف المصري المحتجز خلف التناول السطحي للكثير من الأعمال الأدبية، وخاصة أنه استغلّ بعض الألفاظ التي لا تُقال إلا في الريف، وجعل كلماته تمتزج بها.

استقل حافلة الأحرف والتعبيرات اللغوية وصاغها لصالحه جيدًا؛ فلم يثقل علَل القراء، بل جعلهم يعيشون الحالة الروائية بتفاصيلها كأنهم جزء من الدار، جزء من المشاكل التي توارثها الأجيال والتي اختلفَت باختلافهم، أحبَبتُه كثيرًا حيث أعادني لبيت أقاربي وحياتهم؛ بيتُ جدي وجدتي، بيت الحقيقة التي غابَت عنا لفترات وتعود؛ لتطل علينا في ثوبٍ جديدٍ مختلف حسب كل موقف.

أعادني أيضًا لمسلسل «الوتد» وترابط الأسرة وزواج الأبناء وحال كل منهم على حدّه وطباعه وأفكاره مع ارتداء قناع القسوة والصلابة رغم الحنان والرأفة.

عبّر عن حالنا عبر وصايا عشر، تبدأ بالخلاص عن طريق تحمل المشقة؛ فالإنسان شقيّ بقلبه وعقله، شقيّ في حياته إجمالًا وتفصيلًا.

فنحن نحيا بلا أملٍ  ولا تتوقف حياتنا عند فضيلة التخلي؛ لأننا لا نقوى عليها.

يسرد الجد سليم حكايته لحفيده «الساقط» كما يسميه، الذي اعوجّت حياته واختلّت كما اعوّج الزمن، الذي شهد صعود دار سليم من رماد الانهيار ثم ازدهارها ثم هدمها وتشتّت سكانها في أرجاء العالم الفسيح، لتتلاشى إلى الأبد كما وصف الجد وبعده ابنته التي ظلّت تخشى التيه لآخر أنفاسها، وظهر ذلك كان جليًا في إصرارها على الرجوع للبلد بعباءة أخيها ل؛تدفنها بجوار الأحبة.

يواصل عادل عصمت تأمله في ما يكمن خلف الزمن، ذلك الذي يمكن اعتباره خطًا أساسيًا لكتابته بوجه عام، أطوار البشر وفصولهم الأربعة، إشراقهم وكفاحهم وضعفهم وذبولهم، الأماكن التي نبنيها لتكون ذاكرةً فتنسانا أو ننساها بعد حين، المشاعر التي تولد بداخلنا ثم تحملنا إلى وجهة أخرى غير التي كنا نتّجه إليها أو تتبدد وتتركنا في العراء أشخاصًا يرون أنفسهم للمرة الأولى.

المشاعر التي تقتلنا أو تلك التي تضيء لنا كنورٍ ضعيف نعيش فيه بلا هوادة، نتحايل على أنفسنا وعلى أحداقنا؛ كي تجمد.

وعلى جانب آخر، علينا أن لا نفقد ثقتنا في المحبة؛ لأنها الدواء لأيام الباطل، فالحب هو الحسّ الذي يسري في كياننا وأوصالنا، هو الحياة لمن لا حياة له، الحب هو نافذة الضوء الوحيدة للعتمة الداخلية، هو سر من أسرار الكون والخلود.

كما علينا أن نخترع الأمل حتى نجعل موتنا سهلًا، وخاصة أننا على يقين أننا سنصل إليه في يومٍ من الأيام.

وعبر الزمن تسير الحكاية في خطوط متوازية، نرى منها خط رواية الأحداث من الجد الذاهب إلى الموت؛ حيث الزمن الذي ودعه والأشخاص الذين شهدهم وشهدوه، كما نرى خطّ الحكاية نفسها، كما يرويها الجد بطريقة الفلاش باك، وتحت هذا الخط نلمَح خطوطًا أخرى خفية تسير داخل الأشخاص؛ لتكمل الحكايات الصغيرة التي لم تكتمل، لكنهم يصرّون على إكمالها، فنرى الشيخ وهو يغالب قصة حبه -الشديدة الخصوصية، والمفرطة في العمق- لزوجة صديقه الأقرب؛ لتتحول بداخله إلى نوع آخر من المشاعر أكثر صلابة ودفئًا من أي شيء قد صادفه،
الحب.

وهمٌ كبير بقيدٍ أكبر، كلما اقتربت منه أَرهقَك وزاد طغيانه على قلبك حتى فتّتَه، الحب وجعٌ واحتراق، لهيبٌ وأشواق، يجمع أبجديات اللغة، يحركها كيفما يشاء؛ حتى يُثمل الأحبة وتُرفع الرايات البيضاء، الحب عناءٌ واحتضار، قهرٌ وربما انتصار، لا تملك له طرفًا، ولا تدرك له غاية.

وهنا تحديدًا وجدتُ نفسي ضالّة بين ثناياي لم أكن لأبوح بها، ووجدتُ بقايا حبٍ لبيتنا القديم وحنين إليه طالما باغتَني، قوة وصلابة الجد، جذور الأب، قوة الجدة وصبرها وجلدها كالسّت خديجة التي كانت على سجيتها وفطرتها.

كما نرى زوجة علي سليم وهي تتمسّك بموقعها في الدار رغم وفاة زوجها صاحب النفوذ الأكبر في الدار والأرض، ورغم مرور الزمن وتعلم الأولاد في الجامعة؛ لتصبح مواهبها الحسابية المبهرة بسيطة وساذجة لا تؤهلها للاحتفاظ بموقعها القديم ذي السطوة.

ونعود لنرى خديجة وهي تتحسّس الجدران تخاطب «من لا اسم لهم» الذين يهددونها بهدم البيت وفُقدان العائلة، الأمر الذي جعل أهل الدار يعاملونها بمزيج من السخرية والشفقة قبل أن يدور الزمن ويتساءلون إن كانت قد رأت كل هذا سابقًا بعين البصيرة، وهذا ما آلَت إليه أوضاع الدار دون قصد بمجرد فقدِ الذات وفقدِ الصلة والحنين للأرض قبل الأشخاص، ومتابعة التطورات ومسايرة المجتمع.

نتأكد هنا أن الناس لا يفكرون إلا في ذواتهم ويخشرون حياتهم دون استثناء أو إلا من رحم ربي.

كما أننا تأكدنا أن أفضل الطرق لتحمل الألم هي أن نتركه يحدث وألا نقاومه، فقط نجد وسيلة لنتعلم منه.

علينا ألا نعصِي الزمن وألا نترك حياتنا مثل السديم تفتكُ بنا كما شاءت، نفعل ما علينا ولنا ربٌ قادر على مد يد العون ومساعدتنا في عثراتنا وكبواتنا.

علينا أن نشقّ الصخر؛ لنصل لمبتغانا مع الحفاظ على موروثاتنا وعاداتنا، بالأحرى عدم الانسلاخ من جلدنا.

علينا تحمل حياتنا كما هي؛ فهي رحلة صعبة والناس أصعب، كل شخص فيها يظن نفسه عليمًا بكامل الحياة، ولا يدرك أننا لو قضينا عمرنا كله لن نتعلم سوى ما هو مقدّر لنا، فالإيقاع في هذه الدنيا عميق يلمس سر الروح ويضفي لمحة حزن علينا، حتى لو لم نملك القدرة على التغلب على الأحزان علينا مجاراتها.