أوجاع الآباء يحصد ثمارها الأبناء


قصة
أوجاع الآباء يحصد ثمارها الأبناء
بقلم/ أسماء عبدالخالق



الكلمة قد تحيي الأمل في النفوس، وقد تضع الأقدام فوق الرؤوس، وقد تجعل البعض يتجرع العذاب في الكؤوس، والبعض الأخر يشعر وكأنه منحوس.
الكلمة قد تضيء لنا في الظلمات قنديلًا أو فانوسًا، وقد تجعلك من شدتها قنوط يؤوس، أو قد تصير خائب الرجاء متعوس.
هكذا بدأت رحتلها... فتاة ريفية تُحرم من التعليم؛ لتساعد في أعمال المنزل والزراعة، هي أخت لخمسةٍ من البنات وأربع من الأولاد، وكان والدها قعيد لمدة ثلاث سنوات مما أدي لإصابته بقرحة الفراش.
«ولكونها فتاة» فقد تخلت عن حقها في التعليم، كلمة غيرت مسار حياتها، صارت الوجوه حولها شاحبة والأجساد نحيلة، وباتت أفكارها هزيلة ويداها مرتعشة، وبالطبع قراراتها هشة، فقط ترضخ لظروفها.
بلغت السادسة عشرة من العمر، وبكلمة أخرى «كبـــرتِ»، فقرر أهلها زواجها؛ لعلها قد ترتاح وتهنأ برجل يكبرها باثني عشرة سنة ومطلّق، فتركت قريتها وأهلها وجاءت معه إلي القاهرة، وكان لا يجد عملًا يصلح ليكوّن أسرة ويربي فيما بعد أبناء، قرر السفر وانتقل من ليبيا للعراق ولكن دون جدوى، وفي تلك الفترة تركها وحيدة مع أبنائها الثلاث، وإن كان حضوره بجوارها موتٌ؛ فغيابه موتان، فكانت تقنط بغرفة متهالكة تشكو جدرانها الزمن، تعاني تشققات فارهة، وكانت تبكي كل ليلة؛ لتحصل على لقمة عيش لأبنائها، فلم تكن تهتم لحالها على قدر اهتمامها بأبنائها.
كانت تبكي حينما ترى أحد أبنائها لاهثًا خلف بائع الحليب يتوسل بضع قطرات، حينما كانت ترى أبنائها ينظرون للفاكهة ويتمنون، كانت تتمزق لقِصَر يدها، كانت تتكسر كإبريق أجوف لا يحمل ما يعينه على مساعدة زويه.
كان لها ابن بالصف الأول الابتدائي، وكان يعمل عند المكوجي ليحصل علي خمسة وعشرين قرشًا؛ ليشتري بهم خبزًا كمساعدة لوالدته،كيف لها أن تتحمل كل هذا أمام ناظرها.
هنا ظهرَت أمامها كلمة أخرى «أنتِ مسئولــة» فعملَت في حضانة لمدة خمس سنوات؛ حتى تغطي تكاليف حضانة أبنائها وتعليمهم، ثم عملت لمدة عام بمدرسة خاصة، لكن بدون تأمينات.
بحثت عن عمل آخر حتى استقر بها الحال إلي هيئة عامة، حينئذ عاد الزوج بعد رحلة دامت لسنوات أحسّت فيها بالغربة والوحدة.
كبر الأبناء وكبرت متطلباتهم واحتياجاتهم، والزوج مستسلم لحاله لا يعمل، والزوجة وحدها من تعاني.
أكمل ابنها الأكبر تعليمه حتى الثانوية العامة، أما ابنتها الوسطى فتخرجت في معهد الإدارة والسكرتارية والحاسب الألي بتقدير عام جيد جدًا، أما ابنتها الصغرى طالبة الثانوي التجاري التحقت بالمعهد الفني التجاري وحاولت أن تكمل مسيرتها، ودخلت كلية التجارة التعليم المفتوح.
تجاوز الزوج سن الخمسين وتجاوزت الصحة أبوابها، فتحت الأمراض أبوابها واستقبلته بفشل كلوي وأمراض صدرية وأمراض قلب، وكل ذلك على عاتق تلك الزوجة وكأنه اختبار حاد لقوة صبرها، أكان عليها أن تترك نفسها فريسة الظروف فقط تتوسد الحزن، أم تلتحِف الأمل؟ فأصرّت أن تكمل مسيرتها.
وكانت تخرج من عملها بالهيئة للعمل بالبيوت، وقد حاولت الأم كثيرًا أن تجد عملًا لإحدي ابنتيها بالهيئة، لدرجة أنها ذهبت لوكيل أول الوزارة ورئيس مجلس إدارة الهيئة التى تعمل بها وقبّلت يده، لكنه أخبرها بعدم وجود أماكن شاغرة للعمل.
كيف تجرّد من مشاعر الرحمة وتنصلّت منه صفاته الحميدة؟!
لكنها لم تيأس أوتستسلم، ها هي المرأة الخمسينية تعمل بالهيئة منذ إحدى وعشرين سنة لا تكلّ ولا تملّ، أراها وقد خرَت قواعدها تملّك المرض منها، تشقّقَت ملامحها وكأنها أطلال تسير على قدمين، رغم ذلك فالبسمة لا تفارق شفتيها رغم ظهور معالم الأسى على وجنتيها وجحوظ عينيها، لكنها تعلّمت كيف تكون الوحدة وكيف تتعايش معها؛ فأن تكون وحيدًا هو تربية ذاتية فى حد ذاتها.
زوّجَت أبنائها الثلات وآثرتهم على نفسها، حتى حينما قدَمَت علي شقة بالمساكن زوّجت ابنها فيها، حتى فى زواج ابنتيها عانت كثيرًا لدرجة أن كثيرًا من أهل الخير أقدم على مساعدتها ومد يد العون لها من خلال صرف إعانة شهرية، وخاصة أن كل يوم تتأثّر نفسيًا وجسديًا من مرض زوجها الذى يتفاقم بشكل دوري.
ومازالت هي وجدران غرفتها يُبكي أحدهما الآخر؛ فقد شهدَت حزنها قبل فرحها،  وها هي الآن تلك المرأة الحمول بكلمة أخرى «التفاؤل» بدأت تلتقط أنفاسها رويدًا رويدًا، بدأت تشعر بالسكينة على أيدي أبنائها، فقد حصدت ما زرعته من حب وحنان راحة واهتمام.
وهي تقول لنفسها إن حاول هذا الماضي الاتصال بي؛ فسأغلق السماعة بهدوء وأستقبل حاضري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق