الرمز الشعري.. احتيال وهروب



مقال
"الرمز الشعري.. احتيال وهروب"
سيد صبري
العامل الأهم في عملية الإبداع الشعري هو أن يتوفر للشاعر خيال يمكّنه من المواربة بمعانيه، والتلميح بها إعمالًا لذهن القارئ وكدّه وتشويقًا له في البحث عن المقصود، وتحديد ما يريد الشاعر قوله تمامًا، أو على الأقل التوصل إلى مراد الشاعر احتمالًا.
وضوح معاني الشاعر ومباشرته في التعبير عن مراده سمَة من سمات كثيرة يستهجنها النقاد في أي شعر، وذلك؛ لاختلاف الشعر عن النثر في استخدامه لغة أدبية خاصة أساسها التشويق للمعنى وليس مباشرة  المعنى، أن يلوح بالمعنى من طريق لا يحتمل طلسمة أو إلغاز، وإنما يحرك العقل إليه، ويحمله على فهمه وفق علم القارئ بالمناسبة، وطبيعة لغة الشعر التي تحتفي بصور المجاز وغيرها من أدوات الكتابة الأدبية.
ومن أهم هذه الأدوات التي لم يستغنِ عنها الشاعر في الحاضر والغابر: القناع، أو الرمز الذي يختصر طريقًا طويلًا في عملية التعبير والإبداع، خاصة حين يختار الشاعر لقصيدته فكرة درامية يتنامَى فيها الحدث باستخدام شخصيات تاريخية،  أو خيالية... إنسانية أو غير إنسانية، ولا يكون مقصوده في كلٍّ الشخصية في ذاتها وبذاتها، وإنما القصد ما تمثله هذه الشخصية من قيمة خَلقية أو معنوية يعلمها القارئ يقينًا ويفهم ما تعنيه.
فإذا أورد القارئ مثلا شخصية (خالد بن الوليد) كان القصد إلى الشجاعة والبطولة لا إلى شخص خالد، وإذا أورد (حاتم الطائي) كان القصد إلى الكرم والعطاء لا إلى شخص (حاتم)، وإذا ذكر (مادر) كان القصد إلى البخل في ذاته لا إلى (مادر)، وإذا ذكر (نيرون) كان القصد إلى الشر في ذاته لا إلى شخص نيرون، وإذا ذكر (الحمامة) كان القصد إلى السلام والحب لا إلى الحمامة ذاتها... وهَلُمّ جرًّا من هذه الرموز التي يعرفها القاصي والداني.
وكذلك يمكنه أن يصنع رمزًا من خياله يستخدمه في شعره دون علم القارئ به قبلُ. لكنه في ثنايا شعره يضع صفات خاصة تترجم عن ذلك الرمز، شأنه شأن القاصّ الذي يبث في ثنايا القصة أوصافًا نفسية واجتماعية لشخصيته.
وقد لا يكون هناك داعٍ لاستجلاب الرمز سوى الاختصار، نعم الاختصار ولا شيء آخر، لكنه يختلف بحسب ما يضاف إليه من أغراض، فإما أن يكون اختصارًا للكلمات، أو اختصارًا لطريقٍ شائكة والبعد عنها لطريق أخرى يأتمن الشاعر فيها على نفسه، والاختصار للكلمات وتوفيرها معروف؛ حتى لا يملّ القارئ من طول النص وينتهي به الأمر إلى الإعراض.

لكن الاختصار الآخر غير معروف لدى العامة من القرّاء، وهو اختصار يعمد إليه الشاعر احتيالًا و هروبًا من أعين الرقباء والحاقدين والمتربصين، كما كان الأمر لدى الشعراء القدامى في استخدامهم للمعادل الموضوعي؛ لأجل الحديث عن المحبوبة، فهو لا يعالن بصفات محبوبته أمام الناس، وإنما يكنّي عنها بوصف ناقة، أو وصف فرس، أو وصف غزال، وقد يصل الأمر إلى تسميتها بغير اسمها سترًا وصيانة وإكرامًا لها؛ لأن العرب كانت تعظم شأن الحديث في أمر الحرائر.
وقد تنبه جبران خليل جبران إلى هذه المسألة وتحدث عنها في أبيات قليلة من شعره، يقول :
يا مُنى القلب ونور العين مذ كنتُ وكنتِ
لم أشأ أن يعلمَ الناس بما صنتُ وصنتِ
ولما حاذرت من فطنتهم فينا فطِنتِ
إن ليلاي وهندي       وسعادي من ظننتِ
تكثرُ الأسماءُ لكنَّ المُسمَّى هو أنتِ
فالشاعر القديم كان يحتال خوفًا من غضب قبيلته أو غضب المحبوبة، ولك أن تفتح باب الشك لكل اسم ورد في الشعر القديم صرًّح فيه الشاعر باسم المحبوبة إن كانت عبلًا، أو هندًا، أو ليلى، أو أسماء، أو غيرها من الأسماء، أهي هي؟ أم هذا مجرد رمزٍ وقناعٍ؟!
 والشاعر الحديث في شأن الرمز والغرض منه يماثل في مسعاه مسعى الشاعر القديم؛ خوفًا واحتيالًا،  لكن ربما أدت به الأزمات السياسية، والحرب، ومعاناة أشكال النفي إلى إغراقنا في الرموز؛ إذكاءً لروح الوعي والثورة في نفوس الناس، وفرارًا من عيون الرقابة المتسلطة على كل صاحب رأي حر، والراعية للفساد والمفسدين.
يناقش الدكتور محمد أحمد العزب في قصيدته (مأساة فاوسِت الجديدة) رمزًا  للمثقف (يوهان جورج فاوسِت) الساعي إلى تنوير الشعب الذي يصادف سلطة قمعية سلطَّتْ عليه الشيطان و سرقت منه شموع الليل؛ حتى لا يكتب للناس، يقول في بدايتها :
ما ذنبُه؟!
قد كان يهوى الشعر... يهوى الفكر... يهوى الفلسفة
يهوى إذا جنّ المساء
أن يستريح على كتابٍ تاركًا للريح حتى معطفه
لكنهم...
حين انحنى يبكي ويكتب للجموع... سرقوا من الليل الشموع
ورموه بالشيطان حتى خوَّفَه.
 وفي قصيدته عن (نيرون) رمز الدمار الذي يفتعل الأزمة من لا شيء وقد أكرمته روما، لكنه أبى إلا الشر :
كان غبياً
روما أطبقت الجفن عليه، وفرشت بالورد طريقه
وتعرّت من تاج الفكر الخلاق؛ لتنسج أفكاره
لم يترك في التاريخ سوى سطرٍ مشبوهٍ ومدَّانِ
نيرون... وروما... وحريقه.
وكذلك في الرمز عند نزار في قصائده السياسية الكثيرة التي يورد فيها اسم (عنترة) ولا يقصد من ورائه سوى السخرية من عنترة المزعوم في وسائل الإعلام التى تضخم شأن الحاكم، وتجعل منه أيقونة لكل زمان وصورة لكل مكان، ونزار يتحول بالمعنى البطولي للرمز تمامًا عن ميادين المجد وساحات الشرف إلى ميادين أخرى تضمن لصاحبها الاستهزاء به والسخرية منه، يقول نزار في مطلعها :
هـذي البـلاد شـقـةٌ مفـروشـةٌ......يملكها شخصٌ يسمى عنتره
يسـكرُ طوال الليل عنـد بابهـا......ويجمع الإيجـارَ من سكـانهـا
و يطلب الزواج من نسـوانهـا.......ويطلق النـار على الأشجـار
و الأطفـال… و العيـون … و الأثـداء …والضفـائر المعطـره
 هـذي البـلاد كلهـا مزرعـةٌ شخصيـةٌ لعنـتره
سـماؤهـا... هواؤهـا… نسـاؤها… حقولهـا المخضوضره
كل البنايـات – هنـا – يسـكن فيها عـنتره …
كل الشـبابيك عليـها صـورةٌ لعـنتره …
كل الميـادين هنـا ، تحمـل اسـم عــنتره …
عــنترةٌ يقـيم فـي ثيـابنـا … فـي ربطـة الخـبز …
و فـي زجـاجـة الكولا ، و فـي أحـلامنـا المحتضـره ...
وكذلك الأمر عند أحمد مطر وشخصية عباس، وغيرها من الشخصيات المصنوعة لا لشيء إلا للسخرية من السلطة الشمولية ومن يمثلها؛ لأنها أُسدٌ على أهلها وعلى غيرهم نعامة، يقول في إحدى ثوراته الشعرية عن عباس :
بعد انتهاء الجولة المظفرة
"عباس" شد المخصره
ودسَّ فيها خنجره
وأعلن استعداده للجولة المنتظرة
اللص دقّ بابه..
"عباس" لم يفتح له.
اللص أبدى ضجَرَه..
"عباس" لم يصغ له.
اللص هدّ بابه وعابَه
واقتحم البيت بغير رخصة وانتهره:
_ ياثور..أين البقرة؟
"عباس" دسّ كفه فى المخصرة
واستل منها خنجره
وصاح فى شجاعة :
فى الغرفة المجاورة!
اللص خط حوله دائرة وأنذره:
إياك أن تجتاز هذي الدائره.
علا خوار البقرة، خف خوار البقرة، خار خوار البقرة
واللص قام بعدما قضى لديها وطره
ثم مضى
 وصوت "عباس" يدوي خلفه
فلتسقط المؤامرة
فلتسقط المؤامرة
فلتسقط المؤامرة
عباس والخنجر ما حاجته؟!
للمعضلات القاهره.
وغارة اللص؟!
قطعت دابره
جعلت منه مسخرة
انظر..
لقد غافلته
واجتزت خط الدائرة
والأمثلة على الرمز في العصر الحديث تستعصي على الحصر، لكننا أردنا بما أوردناه أن الرمز بما يمثله من أداة للتلويح بمطلوب الشاعر وقصده ليس لمجرد الفنية فحسب، بل كذلك يكون احترازًا عن تربص الحاقدين من القبيلة أو الناقمين
 من السلطة على كل صوت جريء يريد التعبير عن مكنون ذاته أو تنوير عامة الناس وتوعيتهم بما هم فيه من انحطاط والسخرية من كل سلطة تستعبد الرقاب والأقلام والضمائر.
ويبقى الرمز هو الوسيلة قديمًا وحديثًا للتعبير عن الحب والثورة بقصائد خضراء لا تخبو نضارتها ولا يحتجب عبيرها عن الناس أينما كانوا... ووقتما عاشوا؛ فقصائده تصلح لكل زمان ولكل أمة.
---------
#سيد_صبري
#الرمز الشعري.. احتيال وهروب


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق