أصحابُ القيم


قصة
"أصحابُ القيم"
بقلم/ حمادة توفيق


مع طلوع الشمس خرج (ممدوح) كي يذهب إلى حديقة الحيوان وكُله نشاطٌ ومرح، إنه قد أعطى عهداً لسلمى حبيبته أن ينتظرها في التاسعة صباحاً في الحديقة يوم العطلة كي يُكلِمها في موضوعٍ هام.
الدنيا جميلة جداً في هذا الوقت المبكر من الصباح، خاصة عندما تراها من السيارة، على يمينك المحلات والعمائر الشاهقة الإرتفاع والسيارات والمترجلون، كلهم كائناتٌ  تموجُ وتجيشُ في حركة جذابة.
على شمالك الشمس في تلك الساعة الجميلة تخرجُ من مكانٍ ما في الأسفل، مجهول الهوية، لكنها حتماً تخرجُ من مكانٍ ما، كعروسٍ في ليلة دُخلتِها، وقد رفع عريسها الطرحة من على وجهها الجميل، فبدتْ غيداء فاتنة، ضاحِكةَ العيون، مُتألِقةَ النظرات، كذلك رأى الشمس في طلعتها البهية.
حتماً لن يوجد إنسانٌ في هذه اللحظة إلا يروقه هذا المنظرُ البديع، إنها تطلُعُ من بين أشجارٍ قاصيةٍ، فيبرُقُ سناها بين الأوراق والأغصانِ، ثُمﱠ تغيبُ بين الأوراقِ الكثيفةِ فتنضُبُ الفرْحةُ في عيونِ رائيها، حتى إذا عاودتْ الظُهُورَ آبتْ الفرْحةُ مرﱠة أُخرى، منظرٌ شبيهٌ ببورتريه رسمه فنانٌ عالميٌ، رائعُ الريشةِ عميقُ الإحساس.
منظرٌ للأُفُقِ يجلو البؤسَ والجوى من عيونِ كُلﱢ ذي همٍ أو كَرْبٍ، ليُذَكِرَهُ أنﱠ الحياةَ ما زالتْ لطيفةً والدنيا ما زالتْ جميلةً، مفتوحةَ الأيدي لمن يُريدُ أنْ يحتضنها.
كان المشهد البورتريه يذكره بوجه حبيبته التي سيراها، وجهٌ أسيلٌ ملائكيٌ مُفعَمٌ بالنضارة والحيوية، ينعُمُ في حُسْنٍ أخاذٍ، وجهٌ لم يغب عن ذاكرته لأنه مطبوعٌ على قلبه مُنْذُ وُلِدَ، القدرُ خلقهما لبعضهما، (ممدوح وسلمى) قصة الحُبﱢ التي لا تعرف اليأس ولا الوهن، حُبٌ صادِقٌ حقيقيٌ، حُبٌ تنهارُ أمامه - لو عرفا قدره - كُلﱡ سدودِ الفقر والحرمان، والحالة الإجتماعية المُتَدنية التي يحياها.
لن ينسى أبداً آخر لقاءٍ تمﱠ بينهما، عندما جلسا في نفس المكان، وتحدﱠثا عن حُبهما، القصة التي لمْ يعرفا متى بدأتْ، لكنها حتماً بدأتْ قبل رحلة تكوينهما، بدأتْ مُنْذُ الأزل القديم وتأكدتْ أواصِرُها بمولدهما، إنهما حتماً وُلِدا لبعضهما،  حبيبين كما يُريد القدرُ، فحُبُهما حَتْماً قضاءٌ وقدر، لِذا لمْ يعجبا أن يجدا أن تاريخ ميلادهما واحدٌ،  قِصة حُبٍ عارمٍ سوف تُدْرَجُ بحروفٍ من نور بين قِصص العُشاقِ التي لا تزالُ تحيا بين الورى وتعيش، (قيس وليلى)، (عنترة وعبلة)، (روميو وجوليت) و (ممدوح وسلمى) أحدثُ قِصةِ حُبٍ لكن أقوى قِصة عرفتها البشرية، وسوف تُخَلِدُ ذِكْرَهُما، ما دام هناك حُبٌ وقلوبٌ تعشق ونُفوُسٌ تحِنﱡ وعيونٌ يُسهِدُها السهر.
يقف التاكسى فينزل، ها هي الحديقة بدهليزها المميز على بعدِ خطواتٍ، حتماً سيراها تنتظِرُهُ ولْهى بِحُبٍ جياش.
أعطى السائقَ ثمن التوصيلة  فباركه الرﱠجُلُ وقبله ووضعه على جبينه ثُمﱠ دسه في جيبه،وانطلق يقول :
- صباحك فُل يا باشا.
دخل مُبتسماً من كلامِ الرﱠجُلِ، العُشاقُ هكذا دائماً، في حالة فرحٍ وحُبُورٍ مُنقطعِ النظير، يبتسمون لأي كلمة ويفرحون لفرح الآخرين، الكون في نظرهم لوحةٌ مرسومة، والدﱡنيا في نظرهم عيدٌ مُتجدﱢدُ المواعيد، والناس من وجهة نظرهم ملائكة، ثغرهم دائم الإبتسام.
دخل إلى المكان المعهود فرآها مُبتسمة العينين كدأبها، رائعة الجمال، اليوم لبست روباً جديداً، وتزينت لمُقابلةِ حبيبها المتوﱠجِ على عرْشِ قلبها.
ذهب فسلمَ عليها تكادُ عيناه تثَبُ من فرْطِ فرحتها.
قال : تأخرتُ عليكِ؟
أجابتْ : وصلتُ قبلكَ بثوانٍ؟
قال : وحشتينى.
أجابتْ : لم تغبْ عن بالي لحظة.
قال : ما أخبارُ حُبنا؟
قالتْ : بسببه أشْعُرُ كأنني أسعدُ إنسانةً في الوجود.
قال : أُحبُكِ.
قالتْ : أُحِبُك.
وكالعادة جعلا يُطوﱢفانِ داخل الحديقة، ليتفرﱠجا على الحيواناتِ والطيورِ والعالم الرﱠائع في الحديقة، ذهبا إلى قفصِ الأسدِ، ثُمﱠ شاهدا الشامبانزي وتفرﱠجا على الزرافة والفيل، كما جعلا يؤكلانِ بأيديهما القرودَ في الأقفاصِ، كُلﱡ ذلك ويده في يدها.
قالتْ يده ليدها :
- أودﱡ أن نظلﱠ متشابكتين حتى آخِرِ العُمْرِ.
أجابتْ عليها الأخرى :
- دوامُ الحالِ من المُحالِ.
كانت عيناه مُبتَسِمةً، ينظرُ إليها ضاحكاً فتضحكُ له بين الفينة والأُخْرى، ضحكتها تنعِشُ داخله الأمل.
قال لها : تعبتِ؟
قالتْ : إلى حدٍ ما.
قال : هيا نجلس.
جلسا معاً بين أيكة وارفة الظلال ونخلة، يتبادلان الكلامَ والإبتسامات.
قال لها : كم أودﱡ أن أعيشَ وحُبُنا إلى الأبد، كم أتوقُ إلى عُشٍ جميلٍ يجْمَعُنا سوياً، كم أُحِبﱡ أن نكون لبعضنا.
قالتْ : اليومَ جئتُ وقلبي يدُقﱡ من الأيامِ القادمة.
قال لها : أما زالتْ أُمُكِ تتعنت؟
قالتْ : تقولُ لي دائماً : إذا كان يُريدكِ أين الشقة والعفش والشبكة والمُقدﱠم والمؤخر؟
انقطع الألقُ الوامِضُ من عينيه، وقال آنفاً :
- أما قُلتِ أنﱠ حُبنا سيضمنُ لنا السعادة، وأننا سنتزوﱠجُ وما زال العُمْرُ أمامنا، وأننا سوف نبدأ من بداية السُلم، والحُبﱡ سوف يمُدﱡنا بالطاقة والأمل، أما فهمتيها حقيقة الوضع.
قالتْ - وقد أصبحتْ جادﱠة هي الأخرى - :
- الظاهرُ أنﱠ هذا ليس زمنَ الحُبﱢ والعواطفِ والمشاعرِ، إنه زمنُ المالِ والثروة والنُفُوذِ، وكما تقولُ أُمي : (لا يعيبُ الرﱠجُلَ إلا جيبه).
قال مُتألماً :
- خُسارة أن تنقرضَ القيمُ الجميلة، خُسارة أن يموتَ الحُبﱡ تحت أقدامِ المالِ والنفوذِ، خُسارة أن نولدَ أنا وأنتِ في هذا الزمنِ البدد الذي تتحدﱠدُ فيه قيمة الإنسانِ بجيبه، وكأن لم يعُدْ لِذاته وجودٌ.
قالتْ : اليومَ جاءني عريس.
هبﱠ واقفاً وقال :
- وطبعاً توافقينَ عليه؟
قالتْ : أرجوك، ضعْ نفسَكَ مكاني، أنا أتألم.
قال : ثقي في حُبنا، لا يبقى إلا عامٌ  ونِصفُ، وأتخَرﱠجُ وأشتغل، عندها سأتقدﱠمُ لكِ بِثقة.
قالتْ : أتظُنﱡ أنﱠ الشغلَ ينتظرك، إنك إذن في وهمٍ كبير.
قال : هذا نصيب، وأنا أثِقُ في الله.
ملا من الكلامِ والجُلوسِ فقاما يمشيان، وجدا على غُصْنِ شجرة حمامتين تتعانقان وقد اجتمعتْ مناقيرهما، كحبيبٍ يُقَبِلُ حبيبته، نظر إليها وقال لها :
- كُلﱡ شيء على طبيعته جميلٌ، أما نحن البشرَ فنفرِضُ القيودَ على كُلﱢ معنىً جميل.
كان كُلٌ منهما يُفَكِرُ في مُستقبله مع الآخَرِ في نفس اللحظة، في الغدِ، في الأحلامِ التي رسماها سوياً، في الآمالِ العريضة التي يُمنيانِ بها نفسيهما، هل ستجدُ تلك الآمالُ لها مكاناً فوق الأرض أم ستنهارُ امامَ القيمِ الأخرى؟ ودﱠتْ لوْ عاشتْ معه على القديد ولو صُرِبَتْ لهما خيمة في الشارع، فحياتهما معاً أفضلُ وأجملُ ولو كانتْ في عُشة.
تنهد وقال :
- ماذا جرى للبشر؟ ماذا حدث للدﱡنيا؟ لِمَ تغيرتْ كُلﱠ هذا التغير؟ لِمَ انقلبتْ فيها الموازينُ؟ لِم؟! 
ظلتْ صامتةً، رُبما لمْ تعُدْ راغبةً في الكلامِ العقيم، فجأة توقف وقال لها :
- ما رأيُكِ في الزواجِ العُرْفي؟
انقطع حبلُ أفكارها فجأة وقالتْ له :
- حلٌ منطِقي!
ثُمﱠ عادا يبتسمانِ ويواصلانِ المسير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق