أحمد خالد توفيق


شخصية العدد
"أحمد خالد توفيق"
أحمد الحسيني


هكذا يصبح موتي مدهشًا ..
"ستكون مشاهد جنازتي جميلةً ومؤثرة، لكني لن أراها للأسف برغم أنني سأحضرها بالتأكيد"
"أنا يا رفاق أخشى الموت كثيراً.. و لست من هؤلاء المدّعين الذين يرددون في فخر طفولي: نحن لا نهاب الموت.. كيف لا أهاب الموت و أنا غير مستعد لمواجهة خالقي؟!!"
"إن من لا يخشى الموت هو أحمق أو واهن الإيمان."
ما هذه الضجة الكبيرة الزائدة عن الحد عن رجل خمسيني عجوز مريضَ القلب كان موته متوقعًا؟!
قبل موته لم يكن "أحمد خالد توفيق" اسمًا معروفًا للأجيال التي ولدت قبل الثمانينات، ولكنه نجح أن يكون أبًا روحيًا لطائفة كبيرة من الشباب، كانت كلماته تعبر عنهم، ونجح في ملئ فراغهم الفكري والثقافي، خاطبهم فى عالمهم الخاص بمفرداتهم، داعب أحلامهم وأبرز مخاوفهم، التفُّوا حوله؛ لأنه لم يكن مدعومًا من الدولة أو الإعلام، الإعلام الذي خرج جاهلوه يتساءلون، من هو أحمد خالد توفيق؟! لم نسمع به؛ لأنه لم يكن ضمن المنافقين الآكلين بأقلامهم على موائد السلطان، لم نعرفه؛ لأنه لم يواكب العصر بنشر الرذيلة والإسفاف والتغييب والجهل، لم نعرفه؛ لأنه كان يكتب من قلبه بإنصاف بعيدًا عن الأيدولوجيات والأجندات والأحكام المسبقة ولم يمسح الجوخ مع الماسحين ...
أتابع الانحدار الفكري على شاشات التلفاز وصفحات الإنترنت فيشعرني بالغثيان، وأتابع حنقهم على ضجة وفاته فيتبادر إلى ذهني مقالته :
"لماذا لا تتركونا وشأننا؟.. سرقتم منا الماضي والحاضر والمستقبل .. لكنكم تكرهون أن تتركونا نعيش"

أحمد خالد توفيق أستاذ طب المناطق الحارة في جامعة طنطا، لم تكن قيمته عند أجيال الشباب من بداية الثمانينات والذين اعتبروه أبًا حقيقًا، لم تكن قيمته تتلخص في ما كتبه من روايات الجيب في أدب الرعب والفانتازيا والخيال فقط، وإن كان له السبق فيها، بل كانت قيمته تتلخص في ما يبثه في الشباب من مبادئ وأخلاق وقيم وإنسانية بأسلوبه القريب منهم، يتحدث لغتهم، يعايش همومهم، يستمع إليهم ويوجههم، يضحكون ملئ قلوبهم من أسلوبه الساخر السهل الممتنع، وتجدهم يقولون " كيف علم ما نفكر فيه وصاغه بتلك الطريقة؟ كيف عبر بتلك البساطة عن ما يجيش بصدورنا؟! "
كانت قيمته في إنسانيته وأبوته لكل واحد منهم، يهاتف أحدهم دون سابق معرفة وببالغ الخجل؛ ليواسيه في مصاب له، ويزور الأخرى في مستشفى تبعد عن بيته أميالًا؛ لأنها تقرأ له فأصبحت ابنته، يسكن في بيت بسيط بطنطا ويأكل في مطعم "الجعان" القريب منه، يمكنك وقت ما شئت أن تقابله وتجلس معه دون سابق صحبة أو معرفة فيستمع لك ويناقشك وينصحك.
لم يبن لنفسه برجًا عاجيًا كغيره من أنصاف الأدباء، ولم يحب لقب العرّاب أو الأب الروحي الذي أطلقه عليه قراؤه؛ لأنه رآها مسؤولية كبيرة وليست تشريفًا .
بابتسامته الدافئة وخجله البالغ وتشبيكة أصابعه في بعضها كطفل وإن شاب شعره، كان يدخل القلوب بلا استئذان .

أحمد خالد توفيق لم تكن تهمه الشهرة والمكانة والتلميع الإعلامي، فلم يسر في ركب التطبيل للأنظمة ويتلوث بدناستها، لم تكن تهمه الأموال والدعم المادي فلم يواكب متطلباتها ويملأ كتبه بمشاهد الجنس وهدم القيم والثوابت والمبادئ، ولو فعل ذلك؛ لأصبح اسمه يتردد دوليًا وليس محليًا على الشاشات وصفحات الجرائد، ولاحتفى أصحاب الأجندات الخبيثة به.
لكنه اختار الانحياز لصف الشباب والمراهنة عليهم، اختار الحياة البسيطة مع التمسك بقيم ومبادئ الدين والإنسانية والثقافة التي يغرسها فيهم.

أبطال قصصه يشابهونه في البساطة، فليس فيهم سوبر مان ولا المرأة الخارقة أو الرجل المستحيل، بل كان أحدهم عجوزًا متهالكاً يكاد يسقط ميتًا في أي لحظة، والآخر طبيب شاب طموح لا يميزه شيء عن غيره من الأطباء الشباب، بل إنه يجاهد لكي يبقى طبيبًا ويبقى حيًا في نفس الوقت، أما الفتاة فكانت عادية جداً، عادية الملامح والحياة والبيئة والعمل، لم يكن يميزها إلا خيالها الواسع.
كان أبطال قصصه يشابهونه ويشابهوننا، لذلك وصلوا لقلوب الجميع، وعلم من خلالهم الشباب في عصر ما قبل الانترنت وثقفهم بعيدًا عن الأيدولوجيات والأجندات الموجهة، فمن خلال قصصه ستتعرف على التاريخ والعلوم والطب والأدب، ستقرأ عن إدجار آلان بو وأجاثا كريستي ولافكرافت، ستعرف عن الحرب العالمية والأمراض المستعصية والأماكن الغريبة النائية، وغيرها الكثير مما شكل وجدان وثقافة أجيال متعاقبة.

الكلام عن أحمد خالد توفيق يطول بطول خمسة وعشرون عاما من العطاء والرقي والإنسانية والأبوة، لكنها رد بسيط على جاهل يتسائل : من أحمد خالد توفيق ؟
هكذا أصبح موته مدهشًا لأذناب إعلام وأبواق تفاجأت من هذا الكم من المشاعر والمحبة الصادقة لرجل لا يواكبهم في تفاهاتهم وإسفافهم وانحطاطهم.
أصبح موته مفارقة بين شراذم العواجيز التي نزلت مكرهة بترغيب السلطان أو ترهيبه أو إفساده لعقولهم ليتراقصوا ويتلووا في مشاهد مقززة أمام لجان المسرحية، وبين طوابير الشباب الصادق الذي نزل لا يحدوه سوى الحب لرجل لمس فيه رمزًا بقى صامدًا بقيمه ومبادئه وإنسانيته، لم يتنازل عن أي منها ولم يتلون مع المتلونين ولم يبع نفسه بثمن بخس واختار أن يبقى حيًا في قلوب الملايين من محبيه.

من كلماته :
"لو تصالح كل العرب مع إسرائيل فلن أكون أنا ضمن القائمة بالتأكيد؛ لأنني ألعنهم وألعن الأرض التي يمشون عليها، وأكره منظرهم ولون علمهم ولغتهم. أنا من جيل أوشك أن ينقرض تعلّم أن يكره إسرائيل بحق.. أطفال بحر البقر الذين ماتوا بالقنابل كانوا في سني وقتها بالضبط، وكان يمكن أن أكون أنا لو فضّلت الطائرات محافظة الغربية على الشرقية.. كنت أتابع في شغف برنامج (ماما سلوى حجازي) في التلفزيون، وعرفت ذات صباح أن الإسرائيليين أسقطوا طائرتها... لماذا؟.. لأنهم أولاد كلب طبعًا"
أنا من جيل عرف في المدرسة قصة دير ياسين وكفر قاسم ورأى أباه يبكي يوم استشهاد (عبد المنعم رياض).. أنا من جيل تعلم أن يكره كل ما هو إسرائيلي، وما زال منظر حروفهم العبرية يجعل الشعر ينتصب اشمئزازًا على ساعدي؛ لأنه يذكرني بمنظر أقدام العنكبوت. كان هذا قبل أن يعم السلام الأرض، ويبحث منافق ما في مكتبة الإذاعة عن أغنية أم كلثوم (بالسلام احنا بدينا بالسلام) ويقوم بإعادة إحيائها مع لقطات من أغلفة مجلة أكتوبر للسادات وبيجين وهما ينظران لبعضهما في شوق وحنان، وبيجين يضحك في رقة الملائكة؛ لأننا (مهما كنا ومهما كنتم من حقوقنا ومن حقوقكم.. الحياة والسلام .. ياسلاااااام !). وكانت الأغنية تدوي بينما الطائرات الإسرائيلية تقصف المفاعل العراقي، وبينما جثث صابرًا وشاتيلًا تملأ الشوارع فيقيء المراسل الفرنسي الذي رأى المشهد برغم أنه سد أنفه بمنديل"
هذا هو أحمد خالد توفيق يا من تتساءلون عنه، لا يعيبه أنكم لا تعرفونه، بل العيب فيكم أنتم أنكم حتى الآن لا تدركون الهوة بينكم وبين واقع الشباب الذين هم مستقبل الأوطان.
لا ينتظر منكم أن تعرفونه أو تنعوه، يكفيه المحبة من قلوب أبنائه، ليس في مصر وحدها... ولكن في أرجاء العالم العربي كافة، يكفيه أنه وإن مات جسده فستظل روحه وما كتبه حيًا في قلوب وعقول الملايين، وتظل ذكراه عصية على النسيان.

وداعًا أيها الغريب
كانت إقامتك قصيرة، لكنها كانت رائعة.
عسى أن تجد جنتك التي فتشت عنها كثيرًا
 وداعًا أيها الغريب
 كانت زيارتك رقصة من رقصات الظل...
قطرة من قطرات الندى قبل شروق الشمس...
لحناً سمعناه لثوان من الدغل ثم هززنا رؤوسنا وقلنا أننا توهمناه.
وداعًا أيها الغريب
لكن كل شيء ينتهي !
---------
#أحمد_الحسيني
#أحمد_خالد_توفيق
#العراب






هناك تعليقان (2):

  1. وداعا أيها الغريب
    هكذا هى الحياه فتره قصيره
    نتشكل فيها ونتلون بألوانها ونعيش زيفها وبهرجها وجهلها
    اما انا تأخذنا ونضيع فى وهمها وامالها
    او نحيد عنها ونفوز بالحياه الأخرى
    وداعا أيها الرجل الصادق الصدوق
    وان كنت عشت عالمك الخاص دون رياء
    سطرت أحلامك أمنياتك نصائحك وعلمك ومعرفتهم على الأوراق فعشت رغم غيابك
    وإلى حياه أخرى سرت ثابت الإرادة والعزيمة والإيمان
    فى رحمة الله ومغفرته
    وانا لله وانا اليه راجعون

    ردحذف