بلادي


قصة "بلادي"
بقلم/ هَزار عدنان عيّاش

جائتني ذات ليلة، طرقت البابَ بكُل هدوءٍ وشفافية، ثم دخلتْ وعلى ثغرها ابتسامة فضولية.
افتعلت تلك الابتسامة شعوراً بالراحة والسكينة في داخلي.
قالت: أريدُ أن أنام معك الليلة، فالظلام موحشُُ في غرفتي.
أومأتُ لها بالموافقة، فلمعت عيناها مجدداً، ثم قفزت لتتمدّدَ إلى جانبي.
قالت لي: هلا حدثتني عن بلدتك يا أمي؟
نظرت اليها مندهشة من سؤالها الغير متوقع، ثم أردفت؛ بلادي؟!
- أجل؛ في الحقيقة أنا متعطشة لسماع قصصٍ عنها، على الرغم من أنكِ تروي لي الكثير من الحكايا، ولكن هذه المرة لا أريد سماع أي مِنها، أريد فقط أن تستجمعي لي كُل الأحداث المشوقة والعادات التي كانت سائرة ولا زالت، هيا يا أُمي أرجوكِ.
- حسناً كَما تُريدين، كانت بلادي جنةًَ وردية، تأخذُ حيزاً صغيراً على الخريطة لكنها تجمعُ الأهل والأحبة، تمتازُ بجودة رحيمة في أغلب الأمور التي تمتلكها.
في أول شهور السنة يبدأ الشتاء بتوضيب نفسه للرحيل بعيداً؛ لنستقبل الربيع بألوانهِ الزاهية وورودهِ الفواحة التي كانت تقبعُ على أطراف الطرقات والشوارع، مما يعطيها رائحة أخاذة أعجز عن وصف جمالها ورقة نسيمها.
كان لكُل فصل في بلادي نكهةٌ دامغةٌ ورونقٌ نادر.
تستقبلين صباحك برائحة الياسمين البلدي الذي كان يزين أوساط بيتك وأركانه، ليضيف عليه لمسة حنونة تعمل على استرطابكِ وتهدئتكِ في كُل وقت عصيب في مسار هذه الدنيا.
ومن ثم يأتي المساء لتزيني شرفتك بكوب من القهوة العربية، وإصّيصٍ من الريحان الذي لا غنى لكِ عن جماله.
ثم يأتي موسم الحصاد: القمح والشعير وجميع المحاصيل التي زُرعت، ومن ثُم يبدأ الفلاحون مسيرتهم في العمل والجهد.
أذكر أنه كان هناك يومٌ مميزٌ للفتيات من هذا الشهر، بحيث أن تقوم كل فتاة بارتداء قُبعة من القش، و تُزيِّنُ شعرها بضفيرتين تنسدلُ من على شعرها بكل طفولة وجمالية، ويا حبذا لو كانت شقراء.
كانت هناك أيضاً لُعبةٌ غريبةٌ بعض الشيء، ألا وهي أن نرمي بعضنا البعض بحبات الصنوبر المترامية هنا وهناك، كانت خفيفة وغير مُؤذية لكننا كنا نتظاهر بالألم ونصرخ ضاحكين بأقوى حبالنا الصوتية تألقاً.
الليالي الصيفية كانت حقاً جميلة، لرائحة هواء بلادي طُعمة زاكية لا يمكنني نسيانها؛ حتى رياح الشتاء القارسة كانت تأتي مُهدئة وعطوفة على أناسها.
لم يكن هناك شيءٌ يا عزيزتي إلا ولهُ جمالهُ المكنون الملتف على ذاته، ليظهر في آنه المحدد.
في الصباح الباكر، كنتُ أنهضُ من فراشي وأذهب لسقاية الورود في حوض بيتنا القديم الذي صنعناه أنا وجدتك عندما كُنت أكبُركِ بخمس سنين.
كنتُ أملأ الجرة بماءٍِ باردٍ مُنعش ومن ثم أسقي به الورود بابتسامة "صباحُ الخير"، كنت أملكُ طبعًا غريبًا بعض الشيء.
لا أستطيع سقايتهن بماء ساخنٍ أو أقرب الى الفتور، لقد كان يشعرني بأنني أقتلهنّ بدلاً من إحيائهنّ.
وكأنني أقرأ أفكار الورود وهي تُردد: أرجوكِ ارتشقي إلينا ماءً منعشاً وجميلاً  كحلتك.
أقولها لكِ يا ابنتي:
- بلدي كانت مُرشداً لكل حائر، أمّاً لكل مُيتم، و نِعم اختيار لكُل سائح، كانت وليتها بقيت، وليتني أنجبتُكِ هناك.

هناك تعليقان (2):