عم عباس الذي مات



قصة قصيرة
"عم عباس الذي مات"
حسام قنديل

لماذا تحوم تلك الذكريات حولي الآن؟
الوضع لا يحتمل أيًا من تلك الذكريات الغريبة، التي تأتي بغير ميعاد؛ فأنا في وضعٍ لا أحبه وبغير إرادتي، و بغير اقتناعٍ بجدوى نتائج ما أفعل. الاقتناع الوحيد في ذهني الآن هو اقتناع بعبثية العملية الجراحية التي سأجريها بعد قليل، بعد أن يتم تجهيزي، في الغرفة الصغيرة خارج غرفة العمليات، و التي تشكل الستائر الخضراء جدارنها، في انتظار وصول الطبيب بعد دقائق.
منذ خمسة و عشرون عامًا كنت في السابعة من العمر، و كنت قد عدت حديثًا من أمريكا؛ حيث كان والدي يُعِدُّ رسالة الدكتوراة في موضوع ما، واضطرتنا عدم القدرة على شراء شقة خاصة، إلى السكن مع جدتي في منزل العائلة، الذي شاركتنا فيه خالاتي، كلٌ في دور مستقل من أدوار البيت الأربعة. كان اليوم وقتها هو يوم الثلاثاء، تمام العاشرة مساءً، في أجازة العام الدراسي الأول الذي أقضيه في القاهرة؛ كمحطة انتظار لسفر آخر للعائلة في الغالب.
فجأة ارتفع صراخ في البيت المجاور، صراخ متصل، هستيري، ينادي على شخص يدعى عباس؛ عباس كان السباك المختص بتسليك مجاري المنطقة التي تقع في أغوار حدائق القبة، قرب خط القطار، و التي لم يصلها الصرف الصحي بعد، كان عجوزًا متهالكًا، لكنه يملك حيوية شيطانية تلمع في عينيه، حيوية شابة نضرة لم أفسرها وقتها إلا بأنها دليل على أنه "شبح"، كما كنت أُعَرِّف ما لا أفهم إبَّان حياتي في الولايات المتحدة. المهم؛ كان عباس نسخة مصغرة من مجارير المنطقة، لكنها تمشي على قدمين، و تلبس ما لا يمكن تمييزه عن شرائح القاذورات التي تغطي غرف التفتيش، التي يقضي يومه يكحت جوانبها؛ لا لشئ إلا ليفسح مجالًا لمزيدٍ من القاذورات.
جاء الطبيب وحان الوقت لأدخل إلى غرفة العمليات، وأمنحهم الفرصة لمحاولة تغيير القدر، و فتح سبيل لعلاج ما أعانيه، و يعتبرونه مرضًا، و أعتبرهُ هبةً؛ تحميني من مصدرٍ مهولٍ للصدمات (العقم).
قد تنادي امرأة على عباس (بصوت هستيري)، إما لأن غرفة تفتيش شقتها قد امتلأت، فطفحت بقاذورات البيت على المكان، أو لأنه قد مات. (الصراخ مستمر)، و بدأ الآن يختلط بهرولة أبناء خالاتي-الذين يخطون نحو أول مراحل الرجولة- هرعًا إلى مصدر الصراخ، ثم يعودون بعد نحو نصف الساعة، ليعلنوا أن السبب الثاني هو الذى رَجَحَ، و أن عم عباس قد مات.
 لم أدر وقتها ما الممتع أو الطريف في أن يجحظ أحد أبناء خالاتي بعينيه، ويرفع يديه في وضع الحضن المفتوح ممثلًا دور الجثة؟! و قائلًا أنه عباس بعد أن مات كان هذا أول تعامل لي مع الموت، و معنى أن شخصًا تمتلئُ عيناه بحيوية الأشباح (كما كنت أسميها) و يذرع شارع الوداد (شارعنا) ذهابًا و إيابًا لم يعد هناك، و أنه تحول إلى منظر يشبه ابن خالتي عندما أدى ذلك التعبير الأبله، و أن هذا الشخص سيدفن تحت التراب غدًا على أقصى تقدير.  
-         هل أريد مخدرا كليا أم نصفيا؟
 المخدر الكلي يفقدني السيطرة، و قد لا أعلم ما قد يصنعون بي، و يفتح كذلك أفق احتمالات أخرى، في منطقة مظلمة، لا أحب الدخول إليها -على مستوى المحسوس و المنطقي- فالأزمة مع ما لا تقتنع به من أفعال تؤديها  لأداء واجب المحاولة؛ لإحساسك الخاطئ بالمسؤلية، عن حلم امرأة لا تحبها، و لا تأبه لها في أن تكون أمًا لطفل، قد يشب مجرمًا، أو فاسدًا، أو شاذًا، أو مدمن مخدرات تغري بألا أمنحهم تلك المنطقة العمياء من نفسي.
-         المخدر النصفي سيكون حلًا مناسبًا على ما أعتقد.
لم يتوقف عم عباس عن زيارتي في أحلامي، مع لفحة سخونة تلف مجال الحلم، و لم أجد لها تفسيرًا حتى الآن، لكن زياراته لم تبدأ فور موته، و إنما بعد أن احترقت آمنة.
آمنة كانت تسكن بدروم منزل جدتي الذي عشت فيه لثلاث سنوات، في شارع الوداد طفلًا صغيرًا مذعورًا، جاء من حي بروكلين في نيويورك، إلى عشوائيات حدائق القبة؛ حيث المجاري الطافحة أبدًا، ومع أطفال يلقب أغلبهم بلقب (مجاري) بعد اسمه؛ لمرحه المستمر في برك المجاري.
 كان للمنزل بدروم يقبع أسفله، و تحتل غرفة التفتيش الرئيسية ربعه تقريبًا، ولم يفت على جدتي –رحمها الله– أن تستغل المساحة الباقية؛ لزيادة دخلها، فأجَّرته لآمنة.
آمنه عجوز أعتقد أنها ربت عن المائة عام، صماء، بكماء، عمياء، و ذات أطراف تجعدت، و تراكبت أصابعها من فرط التقدم في العمر، أو الجذام أيهما أبشع.
 قررت آمنة أن تتخذ من بدروم منزل جدتي سكنًا لها، و قررنا نحن الصبية أن نتخذ منها "أُمِّنا الغولة" التي نرتعب عندما نراها من بعيد، قادمة من مكان ما لم نعرفه أبدًا، تحمل كيسًا بلاستيكيًا متوسط الحجم، ملفوف بإحكام، ويمتلئ بشيء ما لم نعرفه أبدًا كذلك.. نختبئ نحن الصبية في مكان ما نراقبها وهي تسير بخطواتها البطيئة نحو سلم البدروم، تنزل إليه خطوة بخطوة حتى تبتلعها الظلمة ثم يتسرب نور "لمبة الجاز" المتهالكة التي لا نعرف كيف تصل إليها آمنة رغم حقيقة أنها لا ترى و تضيئُها، ولم نعرف كذلك ما فائدتها لعجوز عمياء. لم نكن نسمع أصواتًا لكن الرائحة الرهيبة كانت كافية –حتى لِمن اعتادوا المجاري– أن نبتعد عن نافذة البدروم الواقعة أعلى سلم مدخل المنزل.
 حاولنا مرة أو مرتين النزول أثناء عدم وجودها، لكن الرائحة مع الظلام و الخوف من السقوط في غرفة التفتيش مجهولة المكان -و التي لا يعرف مكانها إلا عباس، و لم تسقط فيها آمنة بسبب معجزةٍ ما-، بالإضافة لكيانٍ ما يجثمُ على فكرة التواجد هناك، فقد كان كل ذلك كفيلٌ بأن يعودَ بنا من نهاية السلم السفلية جريًا للأعلى.
الممرض يخدر موضعيًا مكانًا في أسفل ظهري، و ممرض آخر يحمل آثار القهوة على شفتيه، يضرب الحقنة طويلة الإبرة لأشعر بها تلمس مكانًا في عمودي الفقري.. ماذا لو أخطأ ذلك الأبله توجيه الإبرة، و ضرب المكان الخطأ؟ التنميل العنيف يجتاح نصفي الأسفل، والطبيب يربت على وجنتي مشجعًا، ويتناول طقم المشارط من ممرضٍ آخر، ثم يسدل ستارًا على نصفي الأسفل الذي هو موقع العمل، و قاعة الاحتفال الذي سيبدأ بعد قليل.
 كانت الزيارة الأولى من عباس الذي مات في يوم جمعة حار جدًا، انقطعت فيه الكهرباء، فتوقفت المراوح في منزلنا الذي انتقلنا إليه بعد مرحلة الخروج من بيت جدتي، أما احتراق البدروم بآمنة فمر عليه نحو ثلاث سنوات، كانت عائدة من المكان المجهول الذي تذهب إليه صباحًا في التاسعة، وتعود نحو الخامسة، تجر قدميها صعودًا للخمس درجات في سلم المدخل، ثم هبوطًا لثلاثين درجة حتى الغرفة الوحيدة بلا حمام في بدرومها العزيز، تلك الرحلة التي كنت مهتمًا بتصويرها يومًا ما؛ لأتأمل رحلة امرأة كسرت بالتأكيد حاجز المائة عام من مجهول، وهو المكان الذي تذهب إليه كل يوم، ولم أهتم يومًا بمعرفته، إلى مجهول آخر هو بدروم منزل جدتي، بالتأكيد ثمة تفاصيل تستحق التسجيل في تلك الرحلة وتتطلب مشاهدتها عشرات المرات لقطةً بلقطةٍ و بالتصوير البطيء.
لم تتح لي هذه الفرصة أبدًا؛ لأن أحد أبناء خالتي جاء إلينا ليلة الحريق يهذي و يرتجف، ليخبرنا أن آمنة -تقريبًا- أسقطت "لمبة الجاز" على أرضية البدروم، فاندلع الحريق الذي أتى عليها بالكامل، و لم تفلح محاولاتهم فى النزول لإنقاذها حتى خمدت النار، و خفتت معها صرخاتها المستمرة، التي ذكرتهم بصرخات زوجة عباس الذي مات قبلها بسنوات.
كنت أتخيل المشهد تصويريًا غير قادر على إخفاء إحباطي من عدم مشاهدته، و إحباطي الآخر من فقدان فرصة تصوير رحلتها التي تليق بفيلم تسجيلي لناشيونال جيوجرافيك (National Geographic) عن المومياوات التي تمشي على قدمين.
 ابن خالتي الذي حمل جثتها المحترقة مع آخرين بعد خمود النيران ذاتيًا لم ينم ليلتها، و ظلت يداه ترتجفان، فسهرت معه بحكم أنني أسهر في العادة.. كانت أكثر لحظات السهرة إثارة عندما قال لي: لم تكن قد ماتت بعد، لقد حملناها وصعدنا بها، و كنت بجوار رأسها عندما التفتت إليّ و فتحَت عينيها البيضاوتين تمامًا ثم ابتسمت.. تخيل.. آمنة العمياء فتحت عينيها، و نظرت إليَّ تحديدًا و كأنها تراني، ثم ابتسمت.. و ماتت.
يبدو أن الممرض الأحمق قد أخطأ بالفعل في ضرب الحقنة، فضربها أعلى مكانًا من المفترض؛ لأن التنميل بدأ يزحف على قفصي الصدري، و رئتي.. شعرت بذلك عندما حاولت أن أسعل فعجزت.
 من الصعب جدًا تفسير هذا الأمر، كيف يمكن أن أعجز عن السعال بسبب تخدير نصفي؟! ربما يرتبط الأمر بتخدر عضلة ما تساعد على انقباض شيء ما في القفص الصدري؛ لتفرغ ما يفرغه السعال من توتر أو ألم أو حتي برد.
 هذه العضلة أصابها ما أصاب ساقي و أعضاء نصفي الأسفل، التي لم أعد أشعر بها إلا كبالون منفوخ، غلافه جلدي، و يحتوي ما يحتوي من دماء، عظام و أعصاب، لا أشعر بوجودها إلا كملء لهذا البالون.
زيارات عم عباس -الذي مات- كانت قصيرة جدًا، و تحدث في نهاية النوم لتنتهي باستيقاظي.
 الرتابة في أمر عادي يمكن أن يحوله إلى جهنم بالنسبة لأي إنسان، فمن العادي جدًا أن ترى سحنة ميت حاجظ العينين، ينام إلى جوارك ثم يلتفت إليك بعينيه
 الجاحظتين، و جسده المغطى بالقاذورات التي كان يعيش فيها بحكم عمله، ثم يبتسم، و يمد يده السوداء (المغطاة بشرائح طويلة تعلقت به أثناء نشاطه اليومي) تجاهي، لم تصل يده إليَّ أبدًا؛ لأنني كنت أستيقظ قبل أن تصل، لكن تلك اللفحة الساخنة التي تهب علينا و نحن ننام إلى جوار بعضنا البعض في الحلم كانت مرعبة حقًا، ذلك؛ لأن سخونتها لم تكن كأي سخونة تعرضتُ لها.
سخونة ذلك اليوم الأول، الذي زارني فيه عباس -الذي مات- عندما كنت في نوم قيلولة؛ للهرب من حرارة الجو، لم تكن كهذه السخونة رغم أننا أحسسنا جميعًا أننا في جهنم يومها، بل إن السخونة التي شعرت بها عندما سقط البلاستيك المشتعل السائل على يدي، أو عندما لمستُ جهاز صانع السندويتشات، أو مكواة شعر زوجتي بالخطأ لم يكونوا بهذه الشدة المؤذية التى تكاد تذيب لحمي، ربما لن يفهم ما أصفه إلا آمنة، التي احترقت لنصف ساعة كاملة في غرفة ضيقة.
عباس -الذي مات- في أحلامي، و آمنة التي احترقت تمر بذهني ثنائية لم تفارقني يومًا لسنوات عديدة.
تحدثت عنها يومًا لصديقة كنت أحاول أن أخيفها، فصغتُ رواية عن الساحرة، التي كانت تسكن بيت جدتي، و تزور مشرحة كلية الطب يوميًا؛ لتسرق بقايا الجثث التي أتى عليها طلبة كلية الطب، و تلفها بإحكام، ثم تعود بها بصبر إلى منزلها؛ لتقدمها كقربان لكيان ما لم يعرفه أحد؛ ليطيل عمرها، لكن ذلك الكيان عاقبها بحرقها حية؛ لأنها لم تعد قادرة على جلب القرابين له، كما كانت تفعل يوميًا لعشرات السنين في كيس أسود صغير ملفوف بإحكام.
 ساحرة يخافها الأطفال، و لا يزورها، و لا يحدثها، و لا يعلم حقيقة ما تفعل إلا مسلك المجارير، و منظف غرف التفتيش (عباس) الذي يغُبُ عليها كل حين؛ لتنظيف غرفة التفتيش التي تسكن إلى جوارها، و لا تحتاجها؛ لأنها تقضي حاجتها على الأرض كنوع من طقوس السحر الذي تمارسه، و التي لا تكتمل الأيقونة إلا به (عباس) الذي –حسب روايتي– أُخِذَ عليه عهد الصمت و إلا مات رعبا، كأيٍّ من يجرؤ على أن يكسر عهد الصمت على ما تفعل، كما كسرته أنا مع صديقتي.
 ترهات، كنت أحاول بها جذب انتباه شخص ما لا أذكره، لكني لم أنس يومًا شكل عباس، الذي كان ضيفًا ثقيلًا على منامي يوميًا.
الأمر يزداد سوءًا، التنميل يسري عبر عمودي الفقري، إلى أسفل صدري، و تنفسي يزداد صعوبة، يخرج صوتي من فمي خافتًا، مناديًا الطبيب المختفي خلف الستارة يعبث في شيء ما ينتمي إلى جسدي، فيلتفت إليّ و ينزع قناعه الواقي(مبتسمًا)؛ ليطمئنني أن كل شيء تحت السيطرة.
 أشير إلى صدري، فيقطب جبينه، في الوقت الذي تتعلق عيناي بالمشرط الغارق في الدماء، الذي يحمله في يده.
-         هل هذه دمائي؟!......  أحاول السيطرة على ذلك الرعب المزدوج، فتلمح عيناي عبر الستارة التي تحركت كتلة صغيرة غارقة في الدماء، موضوعة على منضدة صغيرة، لمن تنتمي تلك الكتلة؟!
الطبيب الذي يفترض أن يطمئنني قطب جبينه، ثم بدأ الحديث مع طبيب التخدير: آمرًا إياه أن يحقنني بشيء ما، ففعل.
 الخدر يسري في أطرافي، و يبدو أنني في طريقي للنوم.
كنت أحارب رؤياي اليومية بالنوم الاإرادي -كما كنت أطلق عليه، وإن كان مرهِقًا و يحتاج الكثير من التدريب الشاق- مكنني من انتزاع نفسي، من عمق نوم ضحل اخترته، و أتقنت البقاء فيه، و السيطرة على صعودي و هبوطي إلى عمقه، بعد عناء تمكنت من السيطرة شبه التامة على عالم نومي، و لم أمنح عباس -الذي مات- فرصة إكمال المشهد، و إيصال يده إليَّ ليفعل ما يريد فعله.
 اليوم أنا مُعَرَّضٌ على طاولة العمليات، أن أغرق في نوم لا سيطرة لي عليه، و لم أملك الاعتراض؛ لأن ذلك الممرض اللعين، قد ضرب حقنته في المحلول الساري إلى ذراعي، فبدأت بالفعل أشعر بالخدر.
الطبيب بدا متوترًا حقًا، و أضاف هذا لأبعاد الرعب في الموقف بعدًا جديدًا؛ فأنا وسط عالم يعبث فيه شخص بمشرطه في جسدي لسبب لا أقتنع بجداوه، ويخرج جزءًا من هذا الجسد على طاولة أمام عيني.
 عالم يخطئ فيه الممرض في حقنة تخدير نصفي -تُمنَحُ للحوامل عند الولادة- فأعجز أنا عن التنفس تقريبًا، و السعال نهائيًا.
 ثم يجبرني حكام هذا العالم القذر على الدخول في نوم لا أسيطر عليه، لأقابل ضيفًا ثقيلًا لا أستطيع طرده؛ لأنني لن أستطيع الخروج من النوم كما كنت أستطيع عادة.
 و وسط كل هذا يتوتر المسيطر على هذا العالم، و الذي يفترض أنه مصدر اطمئناننا، و يبدأ في الصراخ في الجميع.
 -         من قال أن الرعب مسوخ، و تعاويذ و جثث سائرة؟
عم عباس-الذي مات- عن يميني الآن، يلتفت لي بعينيه الجاحظتين، كما يفعل كل ليلة على مدار عشرين عامًا، يبتسم، و يمد يده بقاذوراتها إليَّ، كانت تلك هي اللحظة، التي أستيقظ فيها إراديًا، لكني لن أستطيع هذه المرة، و سأكمل المشهد لنهايته، التي قد تكون موتي؛ لأنني كسرت عهد الصمت ربما. لفحة السخونة الجهنمية بدأت، و عرفت الآن أنه لم يكن يمد يده إليّ، لكنه كان يشير إلى شيء ما في الجانب الآخر من جسدي الراقد، ألتفت، لأري آمنة -التي احترقت- تبتسم لي، و تفتح فمها الخالي من الأسنان لتقول: "كنت على حق".
 لفحة السخونة تزداد، و لم يكن مصدرها عباس، و إنما آمنة، التي ترقد إلى جوارنا الآن، و تمد يدها المحترقة؛ لتمسك بعنقي، و تضغط بعنفٍ يُعجِزُني عن التنفس.
-         هل أعجز عن التنفس بسبب يدها، أم بسبب حقنة التخدير الخاطئة؟ هل أموت هنا أم هناك؟
صوت عباس يتصاعد؛ ليكمل المشهد، و أنا أجاهد لإدخال أي هواء إلى صدري؛ قائلًا: " يا أهلا بيك في جهنم يا باشا".
انتهى الهواء تمامًا، و بدأت لعق الهواء بلساني بحركات عنيفة، لا يساعدني عليها جسدي المخدر تمامًا، حاولت تحريك رأسي بعنف لأنزع يدها؛ فإنفصلت اليد عن جسد آمنة، لتبقى ضاغطة على عنقي، و أنا راقد أنظر لأعلى تخور قواي، و أرى في مرآة دخلت المشهد وجهي وسط النيران، و قد ازرقّ تمامًا، أما عيناي فميتتان تنظران إلى المجهول.
 قالت لي آمنة في نهاية المشهد: "كنت على حق"
في ماذا؟!  لا أدري، ربما حكايتي عنهم، أو رغبتي في رؤيتها تحترق، أو رغبتي في رؤية عباس ميتًا، أو ربما إيماني بعبثية العملية، التي انتهت بي مع عباس و آمنة في مشهد قتلاني فيه.... (نهاية مناسبة للجميع)
-         أما كيف تمكنت من وصف كل ذلك رغم حقيقة أنني متُّ مقتولًا في حلمي، أو على طاولة العمليات؟ فالتفسير باختصار هو..................
·       مبروك يا جماعة العملية نجحت الحمد لله، و إن شاء الله نبارك لكما على المولود قريبًا..
استيقظت على صوت الطبيب، و زوجتي تجلس إلي جواري، يعلو وجهها القلق.
 استيقظتُ في غرفة نظيفة، و قد أحاطت بنصفي الأسفل الضمادات، و لم يزل أثر التنميل، و إحساس البالونة المنفوخة عن نصفي الأسفل.
-         ماذا حدث؟ هل لازلت حيًا؟
ربت الطبيب على رأسي قائلًا:
·       حدث أمر طارئ في العمليات، لكنه مر بسلام. ثق أننا سنعاقب الممرض على خطئه، و ستعوضك المستشفي بخصم 50% على تكاليف العملية، و الحقن المجهري الذي تنوون القيام به.
نقلتُ عيني بينهما، ثم أعلنت رغبتي في العودة للنوم.
 فشل الحقن المجهري كما توقعت، و طلقتُ زوجتي بعد هذه العملية بنحو العام.
 لكن عم عباس -الذي مات- توقف عن زيارتي، لافتًا انتباهي أننا في جهنم معًا؛ لأننا كسرنا عهد الصمت، أما تذكرة العبور، فقد منحتني إياها آمنة عندما قتلتني.
سبع سنوات الآن من هذا الحدث، و أن أفتقدهم جدًا.
أو ربما أفتقد جهنم، التي أصبحت أحمل تذكرتها......
تمت
------
#حسام_قنديل
#عم_عباس_الذي_مات




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق