مقال
"الحب بين غزاة الصحراء وغزاة الفضاء"
سيد صبري
أسمى معاني الحب هي تلك البعيدة عن
جموح الغريزة وثوران الشهوة... تلك التي لا ينشغل فيها المحب بجسد من يحب على حساب
انشغاله بالروح والنفس... تلك التي لا ينصرف فيها المحبوب إلى المادية الصرفة
وكأنه يجانس الحيوانات البهيمية رغبة وتوحشا... تلك التي يتعلم فيها المحبُّ
التضحيةَ والصبر، ويعجبُني ما وصف به أحد المعاصرين من الشعراء الحبَّ بقوله:
لولا الهوَى لم
نكُن نهدي ابتسامتَنَا لكل من جرَّعونا
الهمَّ والكَمَدَا
ولا صبَرْنا
على الدنيا وأسهمِها قبل الثيابِ
تشقُّ القلبَ والكَبَدَا
وهذا القول المعاصر يختصره في القرن
الخامس الهجري فقيه ذائع الصيت يعرفه الناس بابن حزم الأندلسي (ت456) والذي ألف
كتابه الماتع(طوق الحمامة)، وعنوان الكتاب على اختصاره يعد تلخيصًا للقضية كلها،
فالحب هو الطاقة الخالقة للمستحيلات، والحب هو الطوق الذي يبعث في نفوس الكواسر
هدوء الحمائم ووداعتها، والحب ارتباط لا فكاك منه ولا خلاص في نفوس المحبين، هو
العلاقةٌ التي تجمع الأضداد وتؤلف بين المختلفات، حتى بين القسوة التي تتمثل في
الطوق وبين الرحمة التى تتمثل في الحمامة.
ويدرك ابن حزم منذ البداية أبعاد
التجربة بحديثه عن ماهية الحب فيقول عنه : "الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد"
ثم يستطرد بعد ذلك بصورة بديعة في رصد التجربة بتمامها رصد العَالم بكوامن النفوس،
ونزعاتها، وميولها،
واستعدادها؛ فهو يتحدث عن ماهية الحب، ثم ينتقل للحديث عن صفات
الحب وما يتصل به من المعاني والأسباب والأعراض التي تقع للمحبين حتى تصل بهم
أحيانًا لذهاب العقل والجنون، والكتاب في ثلاثين بابًا كاملًا، وشبيهٌ بهذا الكتاب
في أسلوبه ومنهجه كتاب للمحدث محمد صديق حسن خان القنوجي (ت1832م)، وقد أسماه (نشوة
السكران من صهباء تذكار الغزلان) وابن حزم ليس بِدعًا بين المؤلفين الأوائل في
حديثه عن التجربة، فالمتصفح للمختارات الشعرية يجد أيضًا حديثًا وتأريخًا لتجارب
المحبين، ومن أمثالها كتاب (مصارع العشاق) لابن السراج القارئ البغدادي (ت419)،
وكذلك عند الإمام العلامة جلال الدين السيوطي (ت849) في كتابه (نزهة الجلساء في
أشعار النساء)، ودواوين كثير من الشعراء العاشقين من أمثال قيس بن ذريح، وقيس بن
الملوّح، وجميل، وكُثَيِّر ترصد التجربة وتتحدث عنها باستفاضة بالغة، والنبرة
العفيفة العذرية في كل ذلك جليّة وبارزة، حتى القدماء من شعراء الجاهلية وصدر
الإسلام ممن نظن فيها القسوة والجفاء كان الحب لديهم في أسمى معانية، فيختارون
للحبيب أجمل الصفات وأكرمها في جمال الروح أو جمال الجسد، فهم يستهلون قصائدهم
بذكر المحبوب والبكاء على فراقه وبيان صفاته، وشعراء المعلقات من هذه الطائفة
والصفات المعنوية من أبرز ما يتعرضون له؛ فهي حافظة للسر عفيفة، كريمة المنبت،
واللسان صاحبة منطق، وفهم يقول الأحوص
الشاعر الإسلامي:
إنما الزلفاءُ
هَمِّي فليدعني من يلومُ
أحسنُ النَّاسِ
جميعا حين تمشي وتقومُ
حبَّبَ
الزلفاءَ عندي مَنْطِقٌ منها رخيمُ
ويقول الأعشى الأكبر الشاعر الجاهلي
عن محبوبته (هريرة)
ليست كمن يكره
الجيرانُ طلعتَها ولا تراها
لسرِّ الجار تختتلُ
وجدير بالملاحظة أن التجربة لم تكن
حكرًا على الكرام من الشعراء ذوي النسب والحياة الرغدة، بل شملت كذلك أولئك الشذاذ
المغيرين الذين لا تجمعهم رابطة سوى السلاح، ولا يعرفهم تاريخ الجاهلية إلا كقاطعي
طريق أو ناهبي أموال أو سافكي دماء والذين اشتهروا باسم الصعاليك، وكان منهم
الشعراء كالشنفرى الأزدي، والسليك بن السلكة، وعروة بن الورد، وتأبط شرّاً، وغيرهم
من الشعراء اللصوص، يقول الشنفرى في تائيته المشهورة عن محبوبته (أم عمرو)
لقد أعجبتني لا
سقوطا قناعها إذا ذكّرت ولا بذات
تَلفُّتِ
كأن لها في
الأرض نَسْياً تقصُّهُ على أمِّها وإن
تكلمك تبلتِ
تَحِلُّ بمنجاةٍ
من اللوم بيتُها إذا ما بيوت
بالمذمة حلّتِ
فهل القدماء كانوا أقدر منا على
التعبير؟! أم أننا أقل تغزلًا منهم ورقة طبع ورهافة حس وحنانة قلب؟! فبعد هذا
العرض الموجز لما كان عليه الأمر في شأن الحب والمحبين في القديم لا يسعنا إلا أن
نطرح هذا التساؤل المُلِحّ: لماذا يقل التعبير في العصر الحديث عن الحب؟ ولماذا
اكتفى المجتمع أدبيًا بعبارات هابطة تتردد في الأغاني الشعبية؟ أو انصرف إلى التغنِّي
بما يتركه الحب في النفوس من ألم وشكوى ومرارة وحسرة؟ الأدب
صورة ثقافية صادقة ذات شأن في تربية الأذواق
وتهذيبها وإرشادها إلى الكمال في كل
شيء، ولا سبيل إلى تعليم الأجيال الناشئة الوجه الملائكي للحب إلا من خلال الأدب،
ولا سبيل إلى تجسيد المشاعر المقدسة في نفس الإنسان إلا عن طريق الأدب، والإنسانُ
إذا أحس عرف... وإذا عرف
تعلم... وإذا تعلم تهذب وارتقى في
المدارج، ونحن أحوج ما نكون إلى تحويل
التعبير عن الحب من دمية حمراء وباقة تخاطب الغرائز إلى قصائد وأعمال أدبية تستحث
الوجدان على التزام الحب بمعناه الأسمى والأكمل، فسلامة المحبين من سلامة الحب
وسمو المحبين من سمو الحب.
------
#سيد_صبري#الحب_بين_غزاة_الصحراء_وغزاة_الفضاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق