أسهب
الفلاسفة في القديم والحديث في تناول فكرة الصراع وأسبابها، وما تشيع فيه من
المجالات، ومنذ الحقبة الإغريقية التي شهدت غراس البذور إلى اليوم، ومشاهد الحياة
ونزعات الإنسان تؤكد صحة الفكرة القائلة بأن الكون يقوم على الصراع..
من
لدن آدم والكون مشغول بالصراع؛ الصراع بين آدم عليه السلام وإبليس، الصراع بين
إبليس وذرية آدم، الصراع بين الخير والشر، الصراع بين القديم والحديث، الصراع بين
الرجل والمرأة، الصراع بين الإنسان وعناصر الطبيعة، والصراع بين الإنسان والمجتمع،
والصراع حتى بين الإنسان ونفسه... صراع في كل المجالات حتى بين العلوم وبعضها،
وبين الفنون وبعضها، تتحكم في كل هذا حركة متواصلة، يتحدث عنها (هيراكليس) بقوله
«إنك لا تنزل الماء مرتين» فالماء الذي لامس جسدك في المرة الأولى غير الذي لامس
جسدك في المرة الثانية، ويؤكد على ذات الفكرة في العصر الحديث (فريدريك هيجل) في
نظرته للوجود، و(سيجموند فرويد) في تحليله للنفس، وغيرهم كلٌّ حسب غرضه وميوله.
الصراع
هو الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى ما يريد، ويؤكد بها وجوده في عالم الأحياء
صراع من أجل إظهار أنوِيَّتِهِ وإثبات ذاته صراع للمال، للشهرة، للسيادة، على حساب
غيره أحيانا وعلى حساب راحته دائمًا، المهم أن ينتصر في النهاية لفكرته ورغبته.
وفي
دنيا الأدب سيطرت فكرة الصراع منذ القديم؛ فالأدباء في عالم الإبداع يتفاوتون قوة
وضعفًا، والأجناس الأدبية أصلًا غير متساوية جودة وأبهة؛ فمنها الراقي ومنها الأقل
رُقيًّا، هكذا كانت الرؤية قديمًا؛ فمدينة أفلاطون الفاضلة لا مكان فيها للشعراء
سوى القليل لشعراء يكتبون للآلهة؛ لأن الشعر تقليدٌ للمُقلَّد ومحاكاةٌ للمُحاكَى
ولا مَزِيَّةَ فيه، والفن الأول لدى الإغريق هو المسرح، والشعر لابد له من هدف
إصلاحي وتربوي، ولا مكان للشعر الذي يتغنى بالجمال، في حين ينتصر السوفسطائيون من
أهل البلاغة للجمال. أرسطو لا يتورع عن تقليل شأن الشعراء، وأرستوڤانيس يسخر من
الفلسفة وأهلها، بل يسخر من بعض أدباء عصره ويفاضل بينهم في مسرحيته المشهورة
المسماة بـ(الضفادع) التي استفاد منها فيما بعد أبو العلاء المعري في (رسالة
الغفران)، واستفاد منها دانتي أليجري في (الكوميديا الإلهية).
ومع
عصر النهضة وما تلاه يتبنّى الأدباء الفكرة وينتصر كل فريق لمذهبه؛ فالكلاسيكية
تحاكي الأعمال القديمة، وتحتفي بها وتجعلها قدوة لها وتعلي من شأن العقل، وتمتهن
العاطفة والرومانسية... تتمرد على العقل وتحتفي بالعاطفة، وتقدم الجمالي على
النفعي وترفع شأن الخيال، والواقعية تحتفي بالنافع وتمتهن الخيال.
الكلاسيكية
تنتصر للنبلاء والأرستقراط وتحتقر أراذل الناس، والرومانسية تنتصر للمجرمين
والبغايا وتراهم ضحايا لفساد طبقة الأرستقراط، والاشتراكية تنتصر للبروليتاريا
والطبقات الكادحة وترى أن لها حقًا أصيلًا في الثروة والملكيات العامة، وحسبك من
أعمال موليير الكلاسيكية وأعمال شكسبير الرومانسية وأعمال تولستوي الاشتراكية ما
يصور طبيعة الصراع الممتد لأجيال وأجيال.
أوروبا
تشهد الصراع في حقب متلاحقة، من عصر يسيطر فيه الشعر الغنائي على بقية أجناس
الأدب، إلى عصر تسود فيه المسرحية، إلى عصر تسود فيه القصة، إلى عصر تسود فيه
الرواية، إلى عصر يحتفي بالعبثية والسريالية في الأعمال الأدبية إبان الحداثة وما
بعدها.
وليس
عجيبًا أن نجد الفكرة لدينا نحن العرب -وإن لم يكن لها قاعدة أو نظرية أوجدها أهل
الجاهلية- فهم أصلًا في صراع على أسباب الحياة من الكلأ والماء، وفي صراع على فرض
السطوة والسيادة، حياتهم عداوات لا تنقطع، وحروب لا تنطفئ نيرانها، يؤمنون بالسيف
أكثر من إيمانهم بالعقل، وبالحرب أكثر من إيمانهم بالصلح، الشاعر عندهم فارس بألف
فارس، والشعر عندهم سلاح لا يبارى، والحرب المعنوية أشد وطأة من حروب الرماح
والسيوف.
ولأدبهم
في الصراع قيمة عليا؛ فهو يمثل سلاح المقاومة الأول؛ فالهزيمة الحربية قد تندثر
ذكراها وتُنسى، لكن الهزيمة الأدبية تتناقلها الألسنة ويبقى آثرها لقرون.
وما يجعل العرب متميزين عن غيرهم في
مسألة الصراع هو أن أدبهم جعل للصراع فنًا مستقلًا يُعنى به حتى وإن اختلف اسم هذا
الفن من عصر إلى عصر؛ فالمنافرات في الجاهلية والسجالات الأدبية تعد لونًا أصيلًا
من ألوان الصراع، حيث يحتفي الشاعر بقبيلته ويتغنى ببطولاتها ويعدد أمجادها وأياديها
التي جعلتها تحل مكانة شريفة بين جاراتها الأقل مكانة وقدرًا، وينبري له أديب آخر
من قبيلة أخرى مفاخرًا بشأن قبيلته ومتنقصًا من قبيلة الأول، وقد تحدث المنافرة
بين شخص وشخص لا بين قبيلة وقبيلة وينتهي الأمر بانتصار أحد الطرفين أو بالصلح،
والفن الأدبي المستخدم في مثل تلك السجالات إما الشعر وإما الخطابة، وقد روى
الطبري مثالًا لها في منافرة نفيل بن عبد العزى لعبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى
الله عليه وسلم.
وفي
عصر بني أمية ينشأ فن آخر من فنون الصراع أطلقوا عليه اسم (النقائض)، وفيها ينشئ
الشاعر قصيدة يمتدح بها قومه أو يفتخر فيها بنفسه ويهجو قبيلة أخرى أو شاعرًا آخر؛
فيرد عليه شاعر آخر بقصيدة على منوال الأولى في وزنها وقافيتها ورويِّها [الحرف
الذي تبني عليه القصيدة] فيمتدح قومه ويهجو قوم الآخر، أو يفتخر بنفسه ويتنقص من
الشاعر الآخر، وفي شعر الفرزدق وجرير أمثلة كثيرة لهذا الفن.
وبعد
اتساع الفتوح الإسلامية في المشرق والمغرب مع نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة
العباسية تنشأ حركة شعوبية تهاجم العرب وتفتخر بالموالي [الأعاجم]، كما كان من أبي
القاسم الفردوسي الفارسي في تأليفه لقصيدة الشاهنامة التي يفتخر فيها بتاريخ الفرس
وحضارتهم ويحقر فيها شأن العرب، وجدير بالذكر أن العرب لهم قصيدة رائعة يفتخرون
بها للشنفري الأزدي اسمها (لامية العرب)، فيها الحديث عن مكارم الأخلاق التي يعرف
العرب بها، كالشجاعة، والعفة، والكرم، وقد ألّف الفردوسي على غرارها قصيدة (لامية
العجم) وهو اسم يوحي باعتراضه وانتقاصه وتحديه لقصيدة (لامية العرب).
ولن يعدم الدارس للأدب مظاهر هذا
الصراع في شعوبية أبي نواس في بعض أشعاره من جانب وعلو النبرة العروبية في شعر
المتنبي من جانب آخر.
ومع
دخول الصليبيين إلى بيت المقدس وزحفهم نحو العالم الإسلامي(1099)، وكذلك بعد سقوط
دولة الخلافة على يد التتار (1258) ينشأ نوع آخر من أدب الصراع يستمد مادته من
فواجع الزحف وانهزام الأمة وتشتتها، وقد نطلق عليه افتراضًا (أدب المقاومة) وهو في
معظمه تصوير لما حل بالأمة من مآسي وأحزان ودمار لحضارتها، ودعوة للانتفاض ضد
المحتل وطرده وتطهير الأرض منه، وقد استمر هذا اللون في رسائل وخطب وأشعار لقرون
متطاولة مرت فيها الأمة بانتكاسات متتابعة، ومن أبرز الآثار التي نعرفها لهذين
العصرين رسائل القاضي الفاضل لصلاح الدين الأيوبي، وطائفة من الأشعار جمعها
الأستاذ محمد على الهرفي في كتابه (شعر الجهاد في الحروب الصليبية في بلاد الشام)،
وطائفة كبيرة من الأشعار التي ترثي مدائن المسلمين التي خربَت بعد عمرانها أثناء
غزو المغول ومدح القادة الذين تصدوا لهجمات التتار من أبرزها أشعار علي بن المقرب،
وأشعار داود بن المعظم عيسى، وأشعار شمس الدين الكوفي وغير هؤلاء كثير.
وجدير
بالعلم أن (أدب المقاومة) شغل ساحة الفن زمانًا طويلًا؛ لأنه وبعد سقوط الخلافة
عاشت الأمة في احتلال بعد احتلال، ولأن الأدب يمثل وسيلة الإعلام العامة التي تعبر
عن سعادة الشعب أو غضبه، فكان لزامًا عليه أن يؤدي دوره في كل قطر يعاني أزمة
الاحتلال بعد ذلك، فنجده في بلاد الشام يناضل وفي مصر يناضل وفي المغرب يناضل مهما
اختلفت وجوه الأعداء من فرنسيين أو بريطانيين أو إسبان أو إيطاليين؛ فالجريمة
واحدة وطريق المقاومة واحد.
ولا
يزال الصراع إلى يومنا هذا يسيطر على قياد الفن، إما لفرض رؤية جديدة أو لهدم رؤية
قديمة لا يتورع عن المجاهرة والتحدي؛ فمدرسة الإحياء والبعث تتبنى الرؤية القديمة
للشعر على يد البارودي وشوقي وحافظ وأصحابهم، والمدرسة الرومانسية بقيادة العقاد
وشكري والمازني وأصحابهم تدعو إلى نبذ التقاليد القديمة والتجديد في الألوان
والأغراض والبناء سالكة من أجل ذلك كل سبيل.
خلاصة
ما سبق كله أن الصراع في ميدان الفن لم يكن أبدًا عاملًا من عوامل الهدم كما هو في
الميادين الأخرى (اقتصادًا أو اجتماعًا أو سياسة) بل كان الصراع دافعًا لتجويد
الفن و(عصرنته) أي جعله موافقًا لتقاليد العصر الجديد.
نعم...
الصراع قد يؤدي لخفوت شعاع على حساب آخر، لكنه لا يحجب ضوء الأول...
الصراع
في الفن تتناطح فيه الأفكار؛ لتنتصر لرؤية جديدة تتشوفها أجيالٌ نشأت على نمط جديد
لا تمتهن الماضي إلا إذا كان الماضي حجر عثرة في طريق مستقبلها.
وإذا
كان لكل صراع نهاية فإن الصراع في الفن لا نهاية له؛ فالفكرة متجددة والأدب وليد
الفكرة ينمو بتناميها ويتجدد بتجددها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق