ثأري من الحياة


قصة "ثأري من الحياة (نهاية وجع)"

بقلم/ آية محمد رفعت


زمان قاسٍ دعس قلبي، حطم طفولتي وانتزعها مني بالقوة، تمسكت بها لآخر رمق، ولكنه كان أقوى مني وعساني ظللت أرجوه أن يدعني وشأني، ولكن هيهات، فقد تعمد أن يحطمني، كُسرت وتألمت ولم أجد من يداويني، فقدت الحنان والحب، فقدت أمي، فقدت الأمان والهناء، فقدت أبي فقدت الجميع، لأكون سجينة في بيت شيطانة أرادت أن تجمع المال بشتى الطرق، فكنت أنا الوسيلة لها، لم تخفْ الله ولم ترحم دموعي وقهري، زادت من ضغط الطوق لأختنق، لأرى نهايتي تُشكلُ بخط من يدها، لكن لن أستمر كدمية تحركها هي، سأعافر لأحصل علي الخلاص.
--------
فتاة محطمة حطمها القدر وجعلها كالرماد، مقيدة بقيود العادات والتقاليد، جعلوها الجاني وهي المجني عليها، كانت كالمنبوذة من زوجة أبيها، فقامت بالتخلص منها ولم تهتم لدموعها الأليمة، لم تهتم لرجائها ألا تتركها بهذا البيت المريع، ترجتها كثيراً ولم تستمع لها، فعلمت أنها قد وقعت بيد الشيطان الذي لا يرحم أحداً لتواجه مصيرها وهي بعمر لا يتجاوز الحادية عشرة عاما،ً لترى العناء وهي صغيرة.
روفيندا ببكاءٍ مرير:
- أرجوكِ لا تتركيني هنا.
المرأة بحقد:
- دعي يدي أيتها الفتاة اللعينة، فأنتِ لعنة على من يراكِ، هل تظنين أنك ستحركين الرحمة بقلب مملوء بالقسوة؟ كلا، والآن اجلسي بهدوء قبل أن أقتلكِ بنفسي.
وبالفعل جلستْ روفيندا وعيناها تزرف الدموع بسبب تلك المرأة المملوء قلبها بالجحود، جلستْ لتنظر لها وهي تقبض المال ثمن بيعها لتلك المرأة، أحست كأنها تعيش بزمان العبيد، بكت وعلمت أنْ ليس لها سوى الشكوى لله، ودعت الله كثيراً أنْ يخلصها من تلك الشياطين المنزوع من قلبها  الرحمة  والمملوء  بالجفاء.
أما تلك المرأة فخرجت بعد أن قبضت ثمن بيعها لتلك الفتاة الصغيرة وتركتها بأيدي لا ترحم، اقتربت منها المرأة وعلى وجهها ابتسامة خبيثة تعلمها تلك الفتاة الصغيرة،  فكم اعتادت على تلك الابتسامة من زوجة أبيها.
المرأة:
- لما تنظرين إليّ هكذا أيتها اللعينة؟! هيا قومي وحضري لي الغداء، وعندما تناديني أطلقي عليّ "سيدتي" هل سمعتِ؟
روفيندا -بخوف شديد من تلك المرأة التي تبدو ألعن من زوجة أبيها-:
- أمرك سيدتي المرأة.
بابتسامة غرور:
- أعجبني ذلك أيتها الفتاة، هيا أحضري الطعام ونظفي المكان.
روفيندا:
- حسناً سأفعل.
وبالفعل بدأت روفيندا بتنظيف المكان وإحضار الغداء لتلك المرأة، وشرعت بتنظيف المنزل مثلما أمرتها المرأة، عانت من تنظيف هذا المنزل الكبير بمفردها، فلم تعد تحملها قدماها فجلست لتنال قسطاً من الراحة، لتجد تلك المرأة تحمل عصاً غليظةً لتهوي علي جسدها بضربةٍ قوية صرخت لأجلها ألماً.
المرأة بغضبٍ جامحٍ:
- طلبت منكِ أن تعيدي ترتيب المنزل، وأنتِ تجلسين هنا.
روفيندا ببكاء مرير من شدة الآلام:
- جلست لأستريح قليلاً.
المرأة بدون رحمة:
- تحركي، لا راحة لكِ، هيا تحركي.
تحملتْ روفيندا وقامت وهي تدعو الله أن يخرجها مما هي فيه، وأن يرحمها من تلك المرأة.
عاشتْ تلك الفتاة بظلمٍ كبيرٍ، لم تستطعْ أن تخرج مما هي فيه، تخدم تلك المرأة المنزوع من قلبها  الرحمة، فلم ترأفْ بها، دعت الله أن ينجيها من تلك المرأة، دعت لسنوات ولم تكل لأنها على يقين أن الله سينصرها بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان﴾،  كانت على يقين أنها سيُستجابُ لدعائها، وأن الله سينتقمُ من تلك المرأة وبناتها.
مرت السنوات وما زالت تلك الفتاة تعاني، ولكن لم تفقد إيمانها بربها، بل زاد أضعافاً، كانت تعمل ليلاً ونهاراً حتى  أصبح جسدها هزيلاً للغاية لحرص المرأة على تناولها كمياتٍ قليلةٍ من الطعام تكفي لجعلها على قيد الحياة.
وفي أحد الأيام كانت تقف بالمطبخ تعد الطعام وعيناها مليئة بالدمع، فهي تعيش كالعبيد تطهي الطعام وتخدم تلك المرأة وبناتها، لم تعلم كم مرّ من العمر وهي تدعو الله أن يخلصها مما هي فيه، ولكنها كانت تذكر نفسها دائماً بأيات الله، فقد قال سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون﴾.
كانت على يقين من أن تلك المرأة الظالمة ستكون نهايتها الهلاك، ﴿ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾.
فتلك الآيات كانت أنيسة روفيندا من الأحزان والأوجاع التي تعيشها على يد المرأة الطاغية.
 دلفت إليها إحدى بنات تلك المرأة وقالت:
- هل أنهيتِ العملَ بالمنزل أيتها اللعينة، أم ستقضين اليوم بأكمله هنا؟
روفيندا -دون أن تلتفت لها-:
- أنجزت جميع الأعمال بالخارج.
 الفتاة:
- لماذا تتحدثين هكذا أيتها المعتوهة؟ كما أن أسلوبك فظ؟
روفيندا -بصوت عالٍ بعض الشيء-:
- تحدثت معكِ بلطفٍ، لم أتحدثْ بأسلوبٍ فظ.
الفتاة: يا لكِ من وقحة! أترفعين صوتك على أسيادك؟ حسناً سأتحدث مع أمي لتنالي عقابك.
وخرجت تلك الفتاة وأخبرتْ والدتها التي هرولت إلي الداخل لتجذب تلك الفتاة بالقوة من شعرها، وظلت تكيل لها الضربات، توسلت لها روفيندا أن تتركها فهي لم تفعلْ شيئاً، ولكن لم تستمع لها، لم تعلم أن المرء عندما يشعر بالظلم الطاغي يتحول للذئب، دفعتها روفيندا بكل ما أوتيت من قوة وركضت إلى الخارج لتحظى بالنجاة، ركضت ولم تعي إلى أين تذهب، فهي تريد الابتعاد عن الوكر الذي كانت تعيش به مثل العبيد، ركضت كثيراً حتي اصطدمت بسيارةجعلتها كالجثة الهامدة غارقةً بدمائها، ليخرج منها رجلٌ كبيرٌ بالعمر، وما أن رآها حتي هرع إليها وحملها إلى السيارة كأنه يعلن لها انتهاء رحلتها وعذابها وأنه عوض الله لها  عما رأت، حملها زكريا إلى القصر الذي يعيش به، داواها حتي شُفيتْ تماماً، عاملها كابنةٍ له، فهو يمتلك الكثير من المال ولكنه يشعر بالوحدة بعد وفاة زوجته، حتي الأبناء لم يحظَ بهم، نظر لها بحنان فزرع الله سبحانه وتعالي حبها بقلبه، ليعاملها كابنةٍ له، حتي روفيندا شعرت بحنانه، وسعدت بعطاء الله لها، كأنه عوض الله لها عن الظلم التي عاشت به، حتى أنه كتب كل شيءٍ باسمها، عاشت معه بسعادة، وأخيراً استشعرت الأمان الذي حرمت منه، لم يبقَ لها من تلك المرأة سوى الذكريات الأليمة التي ترفض أن تترك ذهنها وتركت لها بعض الكدمات بجسدها، حتي تظل تتذكرها، ولكنها كانت سعيدة لها، حتي تحمد الله عندما ترى الكدمات، أنه منّ عليها بهذا الأب الحنون.
مرت الأيام وتحسنت حالة روفيندا، وقويت علاقتها بزكريا -الرجل المسن- الذي يعتبرها كنزه الثمين، العوض الكبير له عن الوحدة التي عاشها.
في صباح يوم جديد كانت روفيندا تجلس بالحديقه تتأمل الازهار وجمالها، ثم شردت بالماضي، شردت بتلك المرأة القاسية، شردت بالعذاب الذي تلقته علي يدها، لتفق علي صوتٍ غريبٍ تسمعه بالقصر لأول مرة، لترفع عينيها السوداء كسواد الليل لتعبر عن الظلمات التي تعرضات لها، لتجد شاباً في منتصف العقد الثالث من عمره، شاباً وسيماً بعض الشيء.
 عمر: هل أنتِ ابنة السيد زكريا؟ روفيندا -باستغراب-:
- نعم، هل من أمر أخبره به؟
عمر -بابتسامة-:
- نعم أنا عمر، نائب مدير شركات السيوفي، بعثني السيد إلياس إلى السيد زكريا هنا لأمر عاجل، هل من الممكن أن أقابله؟
روفيندا: بالطبع تفضل معي.
وبالفعل تبعها عمر إلى أن أوصلته إلى الغرفة الخاصة بأبيها زكريا، فابتسم لها وقال:
- أهلاً عزيزتي، تفضلي بالدخول.
روفيندا: أبي، هذا الشاب يريد مقابلتك.
ابتسم زكريا لعمر وقال:
- تفضل بالدخول يا عمر.
فدلف عمر وجلس وعيناه ترفض ترك تلك الفتاة الغامضة، فعيناها معبأةٌ بالآلام، لم يعلم لمَ أحسَّ أن هناك رابطاً خفياً بينه وبينها، أفاق عمر على صوت زكريا وهو يطلب منه الملفات التي يريد توقعيه عليها، أما روفيندا فتوجهت إلى غرفتها لتقرأ وردها اليومي من القرآن الكريم الذي يريح قلبها ويزيح عنها دوامة الذكريات الأليمة.
مرتْ الأيام وعمر يتردد إلى القصر بحجة العمل، وأن السيد زكريا لا يذهب للشركات كثيراً.
ليرى به زهرته الغامضة كما اطلق عليها، فهي بها شيء غامض لا يفقهه هو، ليجدها كالعادة تجلس بالحديقة شاردةً.
اقترب منها عمر وقال بابتسامة:
- صباح الخير آنستي.
تطلعت له روفيندا وقالت:
- أهلاً بك، هل تريد والدي؟
عمر بخجل: بالحقيقة أريد التحدث معكِ قليلاً، هل من الممكن أن أجلس معك؟
صمتت روفيندا قليلا، فقال هو:
- لن آخذ من وقتك كثيراً أعدك بذلك.
لم تُردْ روفيندا إحراجه أكثر فقالت:
- تفضل.
جلس عمر وعلى وجهه ابتسامة جميلة قائلاً:
- لا أعرف من أين أبدأ، وإن كنتِ ستصدقين حديثي أم لا؟ لكنه الصدق.
روفيندا -ببعض من القلق-:
- تحدث بالموضوع من فضلك سيد عمر.
عمر: حسناً، ما أن رأيتك وأنا أشعر برابط غريب بيننا، أشعر كأني أعرفك  من سنوات، أنا أحبك.
روفيندا: من فضلك لا تحدثني هكذا، فأنا لا تربطني بك أي صلة، أرجو منك ألا تتحدث معي بهذا الموضوع، فأنا أخاف الله يا سيد.
عمر: ولكني أريدك زوجةً لي، لم أرتكب خطيئة.
هدأت روفيندا قليلاً وأخبرته أن الحديث مع والدها ليس معها.
وغادرت وهي تشعر بفرحة لا تعلم سببها، وبالفعل وافق زكريا على زواجها منه، وتزوجته وأنجبت صبياً جميلاً أسمته يونس وفتاةً أسمتها ليان.
كانت روفيندا تعيش بسعادة مع زوجها، فكان هو العوض الأكبر لها عن المعاناة التي عاشتها، عاشت بسعادة إلى أن أتى اليوم الموعود لترى قوة انتقام الله سبحانه وتعالى.
كانت روفيندا بالخارج تشتري لأولادها بعض المستلزمات لترى المرأة التي ظلمتها أمامها، نعم هي من أذاقتها العذاب بأنواعه، هي التي توسلت لها أن ترحمها، لتراها أمامها منكسرة ملقاة أرضاً بملابسها المتسخة، كفيفة لا ترى شيئاً، تعجبت روفيندا وسألت نفسها أين جبروتها؟ أين القوة التي كانت تمتلكها؟
قال الله تعالى:
﴿ولو تَرى إِذِ الظّالِمونَ في غَمَراتِ المَوتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطو أَيديهِم أَخرِجوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ تُجزَونَ عَذابَ الهونِ بِما كُنتُم تَقولونَ عَلَى اللَّهِ غَيرَ الحَقِّ وَكُنتُم عَن آياتِهِ تَستَكبِرونَ﴾.
بكت روفيندا لرؤيتها هكذا، وأمسكت بيد أولادها واتجهت لترحل، ولكن أوقفها قلبها الضغيف عندما رأتها تعبر الطريق وسيارة أوشكت على الاصطدام بها، ركضت إليها وجذبتها من أمام السيارة بسرعة، لتشكرها تلك المرأة بسعادة أنها مازالت على قيد الحياة، لتقول روفيندا:
- هل سعادتك بالحياة اليوم تكفي؟ أم عقابك لظلمك لي جعلك كفيفة القلب؟ نسيتِ عقاب الله الأبشع من الموت؟
المرأة بخوف:
- من أنتِ؟
روفيندا: أنا تلك الفتاة التي توسلت لكِ من أجل الرحمة، أنا التي دعوت الله لظلمك لي فحرمك البصر حتي تشعري بما ارتكبتيه، أنا التي ذاقت الآلام بأنواعها علي يدك، وتركتِ لي حروقاً علي جسدي أتذكرك بها، هل عرفتِ من أنا؟
وتركتها روفيندا بحالة من الصدمة والندم والبكاء المرير، الكأس الذي أذاقته لتلك الفتاة حان الوقت كي تتذوقه هي،
كما تدين تدان ولو بعد حين، فالليل لن يظلّ طويلا، ولا الجمال يدوم للابد، فيأتي وقتٌ للزوال، وللظلم نهاية مصيرها الهلاك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق