إذا أتى الليل


قصة "إذا أتى الليل"
قصة/ حمادة توفيق

الظلام يخيِّم على المكان، والقمر نقطة بيضاء في صفحة سوداء شديدة السواد، هدوء وسكون، من أجلهما يأتي لينسى همومه، ويستريح من أعباء الحياة، فيقع كل مرة في فخاخ الذكريات المرَّة، تطارده من أعماق الماضي السحيق، ماسكة بتلابيبه، ناشبةً أنيابها في قلبه التعيس وروحه البائسة.
" أيتها السماء، جئتك محمَّلاً بالذنوب والخطايا، تفوح من فمي رائحة الخمر، ويداي ملطختان بالدماء، ألا فاغمريني بمطرٍ يطهرني من آثامي، ويخمد نار الذنوب المشتعلة في جسدي، أو فاسكبي عليِّ خمراً لأسكر حتى الثمالة، ثم سليني ما شئتِ، أو أسقطي عليّ ناراً تحرقني لأدفع ثمن أخطائي، لعلَّي أرتاح من عذاب الضمير ".
" أيها القمر يا خلَّي ونديمي، أنت الأنيس والجليس، لا أعرف في دنيا الورى سواك، أنا مثلك، بعيد عن الناس، وحيد، أتنفس الهواء يأساً، وأشرب الماء ألماً، فكن بي رفيقاً ".
" أنا ذلك الفتى الحزين، لا يوجد أشقى مني، إن نظرتَ في عينيّ ألفيت البؤس متمثلاً في أبشع صوره، جسدي مقبرتي لا أرى أبعد منه، سل عني الشقاء يحكِ لك حكايتي، سل عني الألم يقصْ لك قصتي ".
هكذا كان يكلم القمر وعيناه تذرفان حرقة ولوعة، وحزناً ووجعاً.
لكن أنَّى يجيبه القمر وقد اعتلى السماء، فلا يطرق مسامعه صوت ولا يصله نداء؟ هل طاش عقله؟ أم هو أعقل العقلاء؟ ماله؟ الألم يعتصره، والوجع يأسره، والدموع تلهب مآقيه، ماذا حل بساحته؟ ما قصته؟ ماذا فيه؟
" آه من الذكرى المرَّة، لو تُمحى بقلم النسيان، لراق البال، وسكن الجأش، وبردت اللاعجة، وعرف الخلدُ طعم الراحة، ليتني مثلك أيها القمر، كتلة من الصخر، قطعة من حجر، لا تهزك الحوادث، ولا تقتلك الذكرى، ولا تعرف أوجاع البشر"
كان الجو قارس البرودة، والليل البهيم قد أرخى سدوله، والمكان مقفرُ قد خلا من أيّ أحد، تلفت يمنة ويسرة ثم أدركه التعب فجلس على حجر كان أسفل منه، طافت بعقله صورٌ ماتت، وتشكلت بعينه مشاهد فاتت، فانفلت فى البكاء.
جعل يبكي ويبكي ويبكي، قد علا نشيجه ونحيبه، وضجَّ بالمكان صوتُه، حتى ضاق به المكان رغم سعته.
" الشقاوة كلمة كتبت، خطَّها القدر بقلم رباني، ثم جئت أنا لأحياها بعقلي وروحي وكياني ووجداني، مات يوم ولادتي أحنُّ الناس في أسرتي، مات أبي وكان يُضربُ به المثلُ في دماثةِ الخلق والكرم والرحمة والتواضع، ومات خالي بعده بأيام وكان مثله تماماً، كأنما خلقا من عجينة واحدة، ثم مات أخي في نفس العام، وكان كأبي سمتاً ودَلاً، خلْقاً وخُلُقاً، وجئت أنا فلم أجد إلا أُمّاً ثكلى، قد عميت من كثرة البكاء، وبناتٍ ثلاثاً يكابدن الفقر والحاجة وقلة الخُطَّاب.
تركت دراستي وامتهنت حرفاً شتى لأجلهنَّ، وانحرفت سعياً خلف المال في الحرام، وأصبحت مطلوباً للعدالة بعدما كُشِف أمري، هذه حياتي وهذا تاريخي، فهل تُرَى مثلي يهنأ أو يسعد أو يطيب له عيش؟ "
قام من جلسته تحرك خطوات، ثم نظر إلى القمر مرَّة أخرى، قال :
" أجبني وأنصفني، هل رأيت أشقى مني؟ " 
تمتم بصوت خافت :
" الحياة أكذوبة كبرى، ليست السعادة إلا وهماً، سحقاً لابتساماتهم الزائفة، كم أخفت من المآسي، سحقاً لورودهم اليانعة، غداً تذبلُ وتدوسها أقدامهم، لو ذقت طعم السعادة لعرفته، اعتدت الحنظل فلا أستسيغ سواه.
واهاً أيها الليل الساجي، كم أخفيت من جرائمي، أنت صديقي المؤتمن، لا تفشي سرَّي، لا تكشِفُ أمري، أنا مدين لك بحياتي، عيبك الوحيد أنك تحيي ذكرياتي المرَّة كرَّة بعد كرَّة، وتقلب عليَّ من المواجع، ما يُطيرُ الوَسَنَ، ويقِضُّ المضاجع "
وضع يده في جيوبه وخفد قليلاً، حتى صعد على ربوة فاعتلاها، لفت انتباهه أضواءُ بعيدة لبعض العمائر الشاخصة كالأشباح، فوقف يتطلَّع إليها :
" تخيلت نفسي يوماً رجلاً ثرياً، فاحش الثراء، حولي خدم وحشم، وتحتي زوجة حسناء، وسيارة فارهة، وأموال طائلة، ومنصب رفيع، ذا حسب ونسب، وكتابي ناصع البياض، أحلام يقظة،  ليس من حق أمثالي أن يحلموا، أنا في زمن لا يعرف الفقراء والضعفاء والبسطاء، وفي بلد تأكل أبناءها وليس عليهم إلا الطاعة العمياء، نحن هنا ضيوف، راحلون لا محالة، إن شبعنا رضينا، وإن جوعنا فالصبر والرضا من شيم الأتقياء "
تأوه بشدة، ثم قرر أن ينصرف، طال بقاؤه في هذا المكان حتى ملَّ.
 استدار ففوجئ بضوء شديد ضرب في عينيه، أغلق عينيه بسرعة وقد دبَّ الخوف في قلبه، انتبه في لحظات فإذا الشرطة أمامه، وقد أحاطتْ به إحاطة السوار بالمعصم، تملَّكه الخوف مرَّة واحدة ثم خطر له أن يجري، فاستدار معطياً الشرطة ظهره وقد لاذ بالفرار، فجروا خلفه محذرين ومهددين.
عادت المشاهد القديمة تتشكَّل أمام عينيه من جديد، استعاد اللحظات المرَّة والأوقات الصعبة في ثوانٍ معدودات مرَّت كلمح البصر، ترقرقت الدموع من عينيه .
" دنت النهاية، دنت النهاية "..
صوَّبت الشرطة أسلحتها، ثم أطلقت النار، سقط على الأرض مدرجأً بالدماء وقد أحاطت به الشرطة محدِّقين فيه.
تمثل أمَّه أمام عينيه تسيل من عينيها الدموع كالمطر المنهمر وهي تقول :
" حذرتك يا ولدي ولكنك لم ترعوِ، هذه هي النهاية الَّتي طالما هربت منها، آن الأوان يا ولدي أن تدفع ثمن أخطائك وآثامك، وداعاً يا ولدي، وداعاً يا ولدي"
" سامحيني يا أمي، سامحيني، الوداع يا أمي، لكل بداية نهاية، ولكل طريق آخر "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق